نقاش المستخدم:Hussein an Egyptian/ملعب

التعليق الأخير: قبل 8 سنوات من Hussein an Egyptian

أركان الإسلام والعلاقة بين الإسلام الإيمان

🌻🌻 تمهيد ومقدمة 🌻🌻

🌻كلمة 🌻 الدين 🌻 جاءت فى القرآن كله بصيغة المفرد لإن الله انزل دينا واحد ... هو الإسلام

تمهيد :

{ ..... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ 🌻الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم 🌻ْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

🌻وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ..🌻 } 🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻

🌻{ ١ } { وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ 🌻 الدِّين َ 🌻 فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

🌻{ ٢ } { إِنَّ 🌻 الدِّينَ 🌻 عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

🌻{ ٣ } { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُون َ 🌻 الدِّين ُ 🌻 لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ }

🌻{ ٤ } { لَا إِكْرَاهَ فِي 🌻 الدِّين 🌻 ِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

🌻{ ٥ } { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي 🌻 الدِّين 🌻 ِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }

🌻{ ٦ } { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَه 🌻 الدِّين 🌻 َ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }

🌻{ ٧ } { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ 🌻 الدِّين 🌻 ُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

🌻{ ٨ } { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي

🌻 الدِّين 🌻 ِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

🌻{ ٩ } { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي 🌻 الدِّين 🌻 ِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

🌻{ ١٠ } { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى 🌻 ٰ وَدِينِ 🌻 الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

🌻{ ١١ } { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِك 🌻 َ الدِّين 🌻 ُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }

🌻{ ١٢ } { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي 🌻 الدِّين ِ 🌻 وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }

🌻{ ١٣ } { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَه 🌻 ُ الدِّين َ🌻 لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }

🌻{ ١٤ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِك 🌻 َ الدِّين ُ 🌻 الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }

🌻{ ١٥ } { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْم 🌻 ِ الدِّين 🌻 ِ}

🌻{ ١٦ } { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ 🌻 الدِّين 🌻 ُ وَاصِبًا ۚ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ }

🌻{ ١٧ } { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي 🌻 الدِّين ِ 🌻 مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ }

🌻{ ١٨ } { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ

🌻 الدِّينِ 🌻 }

🌻{ ١٩ } { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْك ِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَه 🌻 ُ الدِّين 🌻 َ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }

🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻 🌻🌻🌻🌻 لخلاصة 🌻🌻🌻🌻 🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻

🌻{ 20 } { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } 🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻

{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي

قَالُوا آمَنَّا 🌻

وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ 🌻 }

🌻وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ 🌻

[سورة المائدة 111]

وما من نبى إلا وقال :

⏪🌻 وأنا من المسلمين 🌻⏩

الفصل الأول: أركان الإسلام. الفصل الثاني: هل الإسلام يزيد وينقص؟ . الفصل الثالث: الاستثناء في الإسلام. الفصل الرابع: العلاقة بين الإيمان والإسلام. الفصل الأول: أركان الإسلام


تمهيد. المبحث الأول: الشهادتان. المبحث الثاني: الصلاة. المبحث الثالث: الزكاة. المبحث الرابع: الصوم. المبحث الخامس: الحج. المبحث السادس: حكم تارك الأركان الأربعة. المبحث الأول: الشهادتان

(أولها) أو أول هذه الأركان (الركن الأساس الأعظم) الركن في اللغة الجانب الأقوى وهو بحسب ما يطلق فيه كركن البناء وركن القوم ونحو ذلك فمن الأركان ما لا يتم البناء إلا به ومنها ما يقوم بالكلية إلا به وإنما قيل لهذه الخمسة الأمور أركان ودعائم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس)) (1) فشبهه بالبنيان المركب على خمس دعائم وهذا الركن هو أصل الأركان الباقية ولهذا قلنا (الأساس) الذي لا يقوم البناء إلا عليه ولا يمكن إلا به ولا يحصل بدونه (الأعظم) هذه الصيغة مشعرة بتعظيم بقية الأركان وإنما هذا أعظمها فإنها كلها تابعة له ولا يدخل العبد في شيء من الشريعة إلا به. (وهو الصراط) الطريق الواضح (المستقيم) الذي لا اعوجاج فيه ولا غبار عليه بل هو معتدل نير (الأقوم) أي الأعدل من سلكه أوصله إلى جنات النعيم ومن انحرف عنه هوى في قعر الجحيم فإن من لم يثبت عليه في الدنيا لم يثبت على جسر جهنم يوم القيامة وذلك الركن المشار إليه هو (ركن الشهادتين) هذا إضافة الشيء إلى نفسه أي الركن الذي هو الشهادتين وهما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فلا يدخل العبد الإسلام إلا بهما ولا يخرج منه إلا بمناقضتهما إما جحودا لما دلتا عليه أو باستكبار عما استلزمتاه ولهذا لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شيء قبلهما ولم يقبل الله تعالى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد شيئا دونهما فبالشهادة الأولى يعرف المعبود وما يجب له وبالثانية يعرف كيف يعبده وبأي طريق يصل إليه وكيف يؤمن بالعبادة أحد قبل تعريفه بالمعبود وكيف يؤديها من لم يعرف كيف أمر الله أن يعبد ففي الشهادة الأولى توحيد المعبود الذي ما خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له وفي الشهادة الثانية توحيد الطريق الذي لا يوصل إلى الله تعالى إلا منه ولا يقبل دينا ممن ابتغى غيره ورغب عنه فإن عبادة الله تعالى التي خلق الخلق لها وقضى عليهم إفراده بها هي أمر جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه اعتقادا وقولا وعملا ومعرفة محابه تعالى ومرضاته لا تحصل إلا من طريق الشرع الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31] ... (فاثبت) أيها العبد المريد نجاة نفسه من النار والفوز بالجنة على هذا الصراط المستقيم النير الواضح الجلي ولا تستوحش من قلة السالكين وإياك أن تنحرف عنه فتهلك مع الهالكين ((فإن الله عز وجل ينادي يوم القيامة يا آدم فيقول: لبيك وسعديك فيقول: أخرج بعث النار فيقول: من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)) (2)فالناجي حينئذ واحد من ألف فاغتنم أن تكون من تلك الآحاد واحذر أن تغتر بجموع الضلالة فتكون من حطب جهنم وبئس المهاد. (واعتصم) أي استمسك (بالعروة) أي العقد الأوثق في الدين والسبب الموصل إلى رب العالمين (الوثقى) تأنيث الأوثق (التي لا تنفصم) أي لا تنقطع. المبحث الثاني  : الصلاة تمهيد (وثانيا) من الأركان الخمسة (إقامة الصلاة) بجميع حقوقها ولوازمها (وثالثا تأدية الزكاة) إعطاؤها على الوجه المشروع وقد تقرر اقتران هذين الركنين بالتوحيد وتقديمهما بعده على غيرهما في غير موضع من القرآن أمرا وخبرا قال تعالى ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة: 2-3] قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة: 277] وقال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 56] وقال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] وقال الله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 5]وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) (1) وفي رواية ((فليكن ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل فإذا عرفوا الله تعالى فأخبرهم)) (2)الحديث. (203) المطلب الأول: فضل الصلاة اعلم هدانا الله وإياك أن الصلاة قد اشتملت على جل أنواع العبادة من الاعتقاد بالقلب والانقياد والإخلاص والمحبة والخشوع والخضوع والمشاهدة والمراقبة والإقبال على الله عز وجل وإسلام الوجه له والصمود والاطراح بين يديه وعلى أقوال اللسان وأعماله من الشهادتين وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتقديس والتمجيد والتهليل والتكبير والأدعية والتعوذ والاستغفار والاستغاثة والافتقار إلى الله تعالى والثناء عليه والاعتذار من الذنب إليه والإقرار بالنعم له وسائر أنواع الذكر وعلى عمل الجوارح من الركوع والسجود والقيام والاعتدال والخفض والرفع وغير ذلك هذا مع تضمنته من الشرائط والفضائل منها الطهارة الحسية من الأحداث والأنجاس الحسية والمعنوية من الإشراك والفحشاء والمنكر وسائر الأرجاس وإسباغ الوضوء على المكاره ونقل الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة وغير ذلك مما لم يجتمع في غيرها من العبادات ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (3)ولاشتمالها على معاني الإيمان سماها الله إيمانا في قوله تعالى وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[البقرة: 143]. وهي ثانية أركان الإسلام في الفرضية فإنها فرضت في ليلة المعراج بعد عشر من البعثة لم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها إلى شيء غير التوحيد الذي هو الركن الأول ففرضت خمسين ثم خففها الله عز وجل إلى خمس كما تواترت النصوص بذلك في الصحيحين وغيرهما وهي ثانية في الذكر فما ذكرت شرائع الإسلام في آية من الآيات أو حديث من السنة إلا وبدئ بها بعد التوحيد قبل غيرها كما في الآيات السابقة وكما في حديث جبريل (4) وحديث((بني الإسلام)) (5) وحديث وفد عبد القيس (6) وحديث معاذ بن جبل (7) وحديث((أمرت أن أقاتل الناس)) (8)وغيرها مما لا يحصى. وهي ثانية في آيات الأمر بالجهاد وفي آيات وعيد الكفار كما في قوله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [التوبة: 5]وقال الله تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 46-49]. وهي ثانية في مدح المؤمنين كما قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1-2] وفي ذم الكفار بتركها كما في قوله تعالى: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ[الانشقاق: 20-21] وقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31-32] وكذا في ذم المنافقين بعدم اهتمامهم لها كما في قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 142]. وهي ثانية في حساب العبد يوم القيامة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة صلاته فإن قبلت منه تقبل منه سائر عمله وإن ردت عليه رد عليه سائر عمله)) (9) . ومعنى قوله ((أول ما يسأل عنه العبد)) أي بعد التوحيد. وهي ثانية فيما يذكر المجرمون أنهم عوقبوا به كما في قوله تعالى فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ[المدثر: 40-43] الآيات والنصوص في شأنها كثيرة لا تحصى وهي متنوعة فمنها ما فيه الأمر بها حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] وقوله اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45] وقوله: أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء: 78] وما في معناها. ومنها ما فيه بيان محلها من الدين كالنصوص السابقة وكقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ ((رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) (10) . ومنها في ثواب أهلها كقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 9-11]. ومنها ما فيه نجاتهم من النار كقوله صلى الله عليه وسلم في عصاة الموحدين ((فيعرفونهم بآثار السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)) (11) . ومنها ما في عقاب تاركها كقوله تعالى فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ[الماعون: 4-5] وقوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ [مريم: 59-60] الآية, وقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم: 42-43]. ومنها ما فيه تكفير تاركها ونفي الإيمان عنه وإلحاقه بإبليس كقوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم: 59-60] فإنه لو كان مضيع الصلاة مؤمنا لم يشترط في توبته الإيمان. وقوله: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[التوبة: 11] فعلق أخوتهم للمؤمنين بفعل الصلاة فإذا لم يفعلوا لم يكونوا أخوة للمؤمنين فلا يكونون مؤمنين وقال الله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ[ ]السجدة: 15[ وقال الله تعالى:وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ]البقرة: 34[. ] وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله – وفي رواية يا ويلي – أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار)) (12) . وفيه عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (13) ، ورواه الترمذي وقال حسن صحيح (14)وله عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (15) ... وروى الإمام أحمد والنسائي عن محجن بن الأدرع الأسلمي:((أنه كان في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع ومحجن في مجلسه فقال له: ما منعك أن تصلي ألست برجل مسلم قال: بلى ولكني صليت في أهلي فقال له: إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت)) (16) فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة ولفظ الحديث يتضمن أنك لو كنت مسلما لصليت. وفي المسند والأربع السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال له: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور وبرهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) (17) .... (204) المطلب الثاني: حكم تارك الصلاة قال الترمذي رحمه الله تعالى: حدثنا قتيبة أخبرنا بشر بن المفضل عن الجريري عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة (18) . ومنها ما فيه التصريح بوجوب قتله كقوله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [التوبة: 5]الآية وقوله صلى الله عليه وسلم:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)) (19) الحديث وغير ذلك من الآيات والأحاديث. وأما الآثار في شأنها عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم فأكثر من أن تحصر وقد أجمعوا على قتله كفرا إذا كان تركه للصلاة عن جحود لفرضيتها أو استكبار عنها وإن قال لا إله إلا الله لما تقدم من الآيات والأحاديث السابقة ولدخوله في التارك لدينه المفارق للجماعة وفي قوله صلى الله عليه وسلم ((من بدل دينه فاقتلوه)) (20) فإنه بذلك يكون مرتدا مبدلا لدينه وأما إن كان تركه لها لا لجحود ولا استكبار بل لنوع تكاسل وتهاون كما هو حال كثير من الناس فقال النووي رحمه الله تعالى والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف. وذهب جماعة من السلف وهو مروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهي إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وبه قال عبد الله بن مبارك وإسحاق بن راهويه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي رضوان الله عليه وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي رحمهم الله تعالى إلى أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي قال رحمه الله تعالى: واحتج من قال بكفره بظاهر حديث جابر((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (21)وبالقياس على كلمة التوحيد. واحتج من قال لا يقتل بحديث((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)) (22) وليس فيه الصلاة واحتج الجمهور على أنه لا يكفر بقوله تعالى: إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء: 48]وبقوله صلى الله عليه وسلم:((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ومن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ولا يلقى الله عبد بهما غير شاك فيحجب عن الجنة وحرم الله على النار من قال لا إله إلا الله)) (23)وغير ذلك واحتجوا على قتله بقوله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 5]وقوله صلى الله عليه وسلم:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم)) (24) وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)) (25)على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل أو أنه محمول على المستحل أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر أو أن فعله فعل الكفار والله أعلم انتهى كلامه. (205) المطلب الثالث: حكم ترك الصلاة تهاونا وكسلاً من تعمد ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً، هل هو كافر أو مسلم؟ فيه قولان، وهذه المسألة محل خلاف طويل بين أهل العلم، وسنورد أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها على النحو التالي:- القول الأول:- قال بتكفير تارك الصلاة جمع من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين وكثير من أئمة العلم وأهله. يقول محمد بن نصر المروزي عن هذا القول: - وهذا مذهب جمهور أصحاب الحديث. (26) ويقول ابن حزم: - (فروينا عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – وعن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه رحمة الله عليهم، وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة، والتابعين رضي الله عنهم، أن من تـرك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها، فإنه كافر ومرتـد، وبهذا يقول عبد الله بن الماجشـون صاحب مالك، وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره) (27) . وقال ابن قدامة: - واختلفت الرواية هل يقتل لكفره أو حداً؟ فروي أنه يقتل لكفره كالمرتد، فلا يغسل ولا يكفن ولا يدفن بين المسلمين، ولا يرثه أحد، ولا يرث أحداً، اختارها أبو إسحاق بن شاقلا، وابن حامد، وهو مذهب الحسن، والنخعي، والشعبي، وأيوب السختياني، والأوزاعي، وابن المبارك، وحماد بن زيد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن... (28) وقال النووي: - (من تركها بلا عذر تكاسلاً وتهاوناً فيأثم بلا شك، ويجب قتله إذا أصر، وهل يكفر؟ فيه وجهان، حكاهما المصنف الشيرازي وغيره، أحدهما يكفر، قال العبدري: وهو قول منصور الفقيه من أصحابنا وحكاه المصنف في كتابه في الخلاف عن أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا) (29) . وقال ابن تيمية: ( وإن كان التارك للصلاة واحداً فقد قيل إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلي، وجمهور العلماء على أنه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب، فإن تاب وصلى، وإلا قتل، وهل يقتل كافراً أو مسلماً فاسقاً؟ فيه قولان، وأكثر السلف على أنه يقتل كافراً، وهذا كله مع الإقرار بوجوبها) (30) . وأما القائلون بعدم تكفير تارك الصلاة فكثير من الفقهاء. قال ابن قدامة: - (والرواية الثانية: يقتل حداً، مع الحكم بإسلامه، كالزاني المحصن، وهذا اختيار أبي عبد الله ابن بطة، وأنكر قول من قال إنه يكفر... وهذا قول أكثر الفقهاء، وقول أبي حنيفة ومالك، والشافعي) (31) . وقال النووي – عن هذا القول: (وهو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور) (32) . (أ) أدلة الفريق الأول:- استدل القائلون بتكفير تارك الصلاة بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب:- 1- فقوله تعالى: - أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ– إلى قوله – يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم: 35-43]. يقول ابن تيمية: - (إنما يصف سبحانه بالامتناع عن السجود الكفار، كقوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم:42]) (33) ويقول ابن القيم: - (فوجه الدلالة من الآية: - أنه سبحانه أخبر أنه لا يجعل المسلمين كالمجرمين، وأن هذا الأمر لا يليق بحكمته، ولا بحكمه، ثم ذكر أحوال المجرمين الذين هم ضد المسلمين، فقال: - (يوم يكشف عن ساق) وأنهم يدعون إلى السجود لربهم – تبارك وتعالى – فيحال بينهم وبينه، فلا يستطيعون السجود مع المسلمين عقوبة لهم على ترك السجود له مع المصلين في دار الدنيا، وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجـد المسلمون كصياصي البقر (34) ، ولـو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين) (35) . 2 - قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 38-47] يقول محمد بن نصر المروزي: - أولا تراه أبان أن أهل المعاد إلى الجنة المصلين، وأن المستوجبين للإياس من الجنة المستحقين للتخليد في النار من لم يكن من أهل الصلاة بإخباره تعالى عن المخلدين في النار حين سئلوا مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ[المدثر: 42]. (36) وقال ابن القيم: - (قد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين، وتارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر، وقد قال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ[القمر: 47, 48] وقال تعالى: - إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29]، فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين) (37) . 3- قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ [مريم: 59]. ومعنى أضاعوا الصلاة أي تركوها، كما اختاره ابن جرير وغيره (38) ، وأما المقصود بغي، فقد ساق الإمام محمد بن نصر بسنده عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أن صخرة زنة عشر عشروات (39) قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم تنتهي إلى غي وأثام، فقلت: وما غي وأثام؟ قال: بئران في أسفل جهنم، يسيل فيها صديد أهل جهنم)). (40) يقول ابن القيم: (فوجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه جعل هذا المكان من النار لمن أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، ولو كان مع عصاة المسلمين، لكانوا في الطبقة العليا من طبقات النار، ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو في أسفلها، فإن هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام، بل من أمكنه الكفار، ومن الآية دليل آخر وهو قوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فلو كان مضيع الصلاة مؤمناً، لم يشترط في توبته الإيمان، وأنه يكون تحصيلاً للحاصل) (41) . 4- قوله عز وجل: - فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة: 11]. فمفهوم هذه الآية أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من إخوان المؤمنين، ومن انتفت عنهم أخوة المؤمنين، فهم من الكافرين؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]، فالأخوة الدينية لا تنتفي بالمعاصي وإن عظمت، ولكن تنتفي بالخروج عن الإسلام. (42) 5- قوله سبحانه وتعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31- 32]. يقول محمد بن نصر المروزي: - (فالكذب ضد التصديق، والتولي ترك الصلاة وغيرها من الفرائض، ثم أوعده وعيداً بعد وعيد فقال: - أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة: 34- 35]) (43) . ويقول ابن القيم – عن هذه الآيات: (فلما كان الإسلام تصديق الخبر، والانقياد للأمر، جعل سبحانه له ضدين: عدم التصديق، وعدم الصلاة، وقابل التصديق بالتكذيب، والصلاة بالتولي فقال: وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى. فكمـا أن المكذب كافر، فالمتولي عن الصلاة كافر، فكما يزول الإسلام بالتكذيب يزول بالتولي عن الصلاة) (44) . 6-قوله تبارك وتعالى: - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9]. قال عطاء بن أبي رباح: (هي الصلاة المكتوبة) (45) . يقول ابن القيم: - (ووجه الاستدلال بالآية أن الله حكم بالخسران المطلق لمن أَلْهَاه ماله وولده عن الصلاة، والخسران المطلق لا يحصل إلا للكفار، فإن المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه، فآخر أمره إلى الربح، يوضحه أنه سبحانه وتعالى – أكد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد: الأول: إتيانه به بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه دون الفعل الدال على التجدد والحدوث. الثاني: - تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم فإنك إذا قلت: زيد العالم الصالح، أفاد ذلك إثبات كمال ذلك، بخلاف قولك عالم صالح. الثالث: - إتيانه – سبحانه – بالمبتدأ والخبر معرفتين،وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ كما في قوله تعالى: - وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5]، وقوله تعالى - وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]. الرابع: - إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريين: قوة الإسناد، واختصاص المسند إليه بالمسند، كقوله تعالى:- وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[الحـج: 64] وقوله: - وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: 76]) (46) . 7- قوله تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 46-49]. يقول ابن القيم: (توعدهم على ترك الركوع، وهو الصلاة إذا دعوا إليها، ولا يقال إنما توعدهم على التكذيب، فإنه سبحانه وتعالى إنما أخبرهم عن تركهم لها، وعليه وقع الوعيد. ... لا يصر على ترك الصلاة إصراراً مستمراً من يصدق بأن الله سبحانه أمر بها أصلاً، فإنه يستحيل – في العادة والطبيعة – أن يكون الرجل مصدقاً تصديقاً جازماً أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها، هذا من المستحيل قطعاً، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبداً، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمره بها، فليس في قلبه شيء من الإيمان. ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها، وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل،و هذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق، وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة، ولا ترك معصية) (47) . 8- قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[الروم:31]. فبين عز وجل أن علامة أن يكون من المشركين ترك إقامة الصلاة. (48) وأما أدلتهم من السنة فنوردها كما يأتي:- 1- ساق الإمام مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (49) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحد بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، فمن أدى الصلاة فهو مسلم، ومن تركها فهو كافر. يقول البيهقي: ليس من العبادات بعد الإيمان الرافع للكفر عبادة سماها الله عز وجل إيماناً، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها كفراً إلا الصلاة. (50) وقد جاء الكفر – في هذا الحديث – معرفاً، فدل على التخصيص والعهد، وكما قال ابن تيمية:- (ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً، حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قولـه صلى الله عليه وسلم: ((ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)) (51) وبين كفر منكر في الإثبات. (52) ويقول الشوكاني - في بيان حكم تارك الصلاة –: والحق أنه كافر يقتل، أما كفره فلأن الأحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الإطلاق. (53) ويقول الشنقيطي عن هذا الحديث: وهو واضح في أن تارك الصلاة كافر؛ لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافراً. (54) 2- وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (55) يقول العراقي في شرح هذا الحديث: - (الضمير في قوله((وبينهم)) يعود على الكفار أو المنافقين، معناه بين المسلمين والكافرين والمنافقين ترك الصلاة... والمراد أنهم ما داموا يصلون فالعهد الذي بينهم وبين المسلمين من حقن الدم باق...) (56) . ومما قاله المباركفوري في شرح هذا الحديث: - (والمعنى أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم تشبههم بالمسلمين في حضور صلاتهم، ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم والكفار سواء) (57) . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة حداً يميز المسلمين عن غيرهم من الكفار، ويشهد لهذا ما جاء في الحديث الآخر عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً قال:((بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك)) (58) 3- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: ((من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نوراً، ولا برهاناً، ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) (59) قال ابن القيم: وإنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة، وفيه نكتة بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة... إما أن يشغله ماله، أو ملكه، أو رئاسته، أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رئاسة وزارة فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته مع أبي بن خلف. (60) وقال الشنقيطي: (وهذا الحديث أوضح دلالة على كفر تارك الصلاة؛ لأن انتفاء النور والبرهان والنجاة، والكينونة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف يوم القيامة أوضح دليل على الكفر كما ترى) (61) . 4 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بسبع:((لا تشرك بالله شيئاً، وإن قطعت أو حرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً، فمن تركها عمداً فقد برئت منه الذمة...)) (62) يقول ابن القيم: - (ولو كان باقياً على إسلامه، لكانت له ذمة الإسلام) (63) . 5- وجاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الطويل، قوله صلى الله عليه وسلم:((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) (64) يقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله -: ألست تعلم أن الفسطاط إذا سقط عموده، سقط الفسطاط، ولم تنتفع بالطنب ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود الفسطاط انتفعت بالطنب والأوتاد؟ (65) 6- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا)) (66) فهذا دليل على أن من لم يصل صلاتنا، ويستقبل قبلتنا فليس بمسلم. (67) وقال ابن القيم – عن هذا الحديث -: - ووجه الدلالة فيه من وجهين:- أحدهما: أنه إنما جعله مسلماً بهذه الثلاثة، فلا يكون مسلماً بدونها. الثاني:- أنـه إذا صلـى إلى الشرق، لم يكن مسلماً حتى يصلي إلى قبلة المسلمين، فكيف إذا ترك الصلاة بالكلية. (68) 7- وعن محجن الديلي رضي الله عنه: ((أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ قال: بلى يا رسول الله، ولكني قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت)) (69) يقول ابن عبد البر: - في هذا الحديث وجوه من الفقه: أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم لمحجن الديلي: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ وفي هذا – والله أعلم – دليل على أن من لا يصلي ليس بمسلم، وإن كان موحداً، وهذا موضع اختلاف بين أهل العلم، وتقرير هذا الخطاب في هذا الحديث: أن أحداً لا يكون مسلماً إلا أن يصلي، فمن لم يصل فليس بمسلم (70) ويقول ابن القيم: " فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة، وأنت تجد تحت ألفاظ الحديث أنك لو كنت مسلماً لصليت، وهذا كما تقول: مالك لا تتكلم ألست بناطق؟ ومالك؛ لا تتحرك ألست بحي؟ ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة، لما قال لمن رآه لا يصلي: ألست برجل مسلم. (71) 8 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء)) (72) وفي رواية لمسلم: ((قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض)) (73) يقول ابن تيمية: - فدل ذلك على أن من لم يكن غراً محجلاً، لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون من أمته (74) 9 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها وقال فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال: ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: - يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا لعله أن يكون يصلي)) (75) وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: ((إني نهيت عن قتل المصلين)) (76) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الصلاة مانعاً من قتل من همَّ الصحابة بقتلهم لما رأوا فيهم من احتمال كفرهم، ولو لم يكونوا مقيمين للصلاة لم يمنع الصحابة من ذلك، كما هو ظاهر الحديثين، ولكان قتلهم إياهم لأجل أنهم كفار ليس لدمائهم عصمة، ولا يقال هنا أن تارك الصلاة يقتل حداً لا كفراً، بدلالة هذين الحديثين السابقين، فإنهما لا يدلان على ذلك، وإنما يدلان على خلافه، والذي يبين ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) (77) وليس تارك الصلاة من أصحاب الحدود من المسلمين، بل لا يكون ذلك إلا في الزاني المحصن وليس قاتل نفس، فلم يبق إلا أن يكون إباحة دم تارك الصلاة من أجل ردته. (78) 10 - عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة …)) (79) وعن أم سلمة رضي الله عنها((أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا)) (80) و(ما) في قوله: ((ما صلوا))مصدرية ظرفية، أي لا تقاتلوهم مدة كونهم يصلون، ويفهم منه أنهم إن لم يصلوا قوتلوا. (81) وجاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. (82) فدل مجموع هذه الأحاديث أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان؛ لأنه إذا لم يجز الخروج على الأئمة إلا إذا كفروا كفراً بواحاً، ثم جاز الخروج عليهم إذا تركوا الصلاة، دل ذلك على أن ترك الصلاة من ذاك الكفر. (83) 11- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويلي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار)) (84) قال إسحاق بن راهويه: واجتمع أهل العلم على أن إبليس إنما ترك السجود لآدم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان في نفسه خيراً من آدم عليه السلام، فاستكبر عن السجود لآدم فقال: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف: 12]. فالنار أقوى من الطين، فلم يشك إبليس في أن الله قد أمره، ولا جحد السجود، فصار كافراً بتركه أمر الله تعالى، واستنكافه أن يذل لآدم بالسجود له، ولم يكن تركه استنكافاً عن الله تعالى، ولا جحوداً منه لأمره، فاقتاس قوم ترك الصلاة على هذا. قالوا: تارك السجود لله تعالى، وقد افترضه عليه عمداً، وإن كان مقراً بوجوبه، أعظم معصية من إبليس في تركه السجود لآدم؛ لأن الله افترض الصلوات على عباده، اختصها لنفسه، فأمرهم بالخضوع لهم بها دون خلقه، فتارك الصلاة أعظم معصية، واستهانة من إبليس حين ترك السجود لآدم عليه السلام، فكما وقعت استهانة إبليس، وتكبره عن السجود لآدم موقع الحجة، فصار بذلك كافراً، فكذلك تارك الصلاة، عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. (85) وأما دلالة الإجماع على كفر تارك الصلاة، فإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فعن سليمان بن يسار قال: أن المسور بن مخرمة أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ طعن، دخل عليه هو وابن عباس رضي الله عنهم، فلما أصبح من غد، فزعوه، فقالوا: الصلاة، ففزع، فقال: نعم، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى والجرح يثعب دماً. (86) يقول ابن القيم: - فقال هذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه عليه. (87) وقال محمد بن نصر المروزي: - ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتل من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك. (88) وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. (89) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. (90) قال الشوكاني معلقاً على أثر عبد الله بن شقيق (والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة؛ لأن قوله: (كان أصحاب رسول الله) جمع مضاف، وهو من المشعرات بذلك) (91) . وقال إسحاق بن راهويه: (قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة عمداً كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر) (92) . (ب) أدلة الفريق الآخر:- واستدل القائلون بعدم تكفير تارك الصلاة بجملة من الأدلة، نذكرها على النحو التالي:- 1- قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]. 2- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - ((خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)). وفي رواية: ((فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن..)) الحديث (93) وهذا الدليل أجود ما اعتمدوا – كما يقول ابن تيمية (94) . قال الطحاوي: دل أنه لم يخرج بذلك عن الإسلام فيجعله مرتداً مشركاً؛ لأن الله تعالى لا يدخل الجنة من أشرك به لقوله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ[المائدة، آية 73]، ولا يغفر له لقوله تعالى إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء، آية 48]. (95) وقال ابن عبد البر عن هذا الحديث: - (وفيه دليل على أن من لم يصل من المسلمين في مشيئة الله، إذا كان موحداً مؤمناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مقراً، وإن لم يعمل) (96) . وقال الزرقاني: (وفيه - يعني حديث عبادة المذكور - أن تارك الصلاة لا يكفر ولا يتمتم عذابه، بل هو تحت المشيئة بنص الحديث) (97) . ولو كان كافراً لم يدخله تحت المشيئة (98) وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعاً:- يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله، فنحن نقولها. قال صلة بن زفر لحذيفة: - ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفه، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار ثلاثاً. (99) 4- وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: - قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي من صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون فلما رأى قيامهم وتخلفهم، انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه، فصلى فجئت خلفه، فأومأ إلي بيمينه، فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود، فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله، فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل رجل منا بنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو، فقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة، فبعد أن أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة، فقال ابن مسعود: - لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليَّ، فقلت بأبي أنت وأمي، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا وجدنا عليه، قال دعوت لأمتي، قال: فماذا أجبت؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة … الحديث (100) 5- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدواوين عند الله ثلاث: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله عز وجل: - إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ [المائدة: 73]وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله – عز وجل – يغفر ذلك، ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، فظلم العباد بعضهم بعضاً القصاص لا محالة)) (101) 4- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء)) (102) وجاء من حديث أبي هريرة قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلا نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه، ثم ترفع سائر الأعمال على ذلك)) (103) يقول الشوكاني: - أثناء شرحه لهذا الحديث – (والحديث يدل على أن ما لحق الفرائض من النقص كملته النوافل، وأورده المصنف – يعني المجد ابن تيمية - في حجج من قال بعدم الكفر؛ لأن نقصان الفرائض أعم من أن يكون نقصاً في الذات، وهو ترك بعضها، أو في الصفة وهو عدم استيفاء أذكارها، أو أركانها وجبرانها بالنوافل، شعر بأنها مقبولة مثاب عليها، والكفر ينافي ذلك). (104) ويقول الشنقيطي:- (وجه الاستدلال بالحديث المذكور على عدم كفر تارك الصلاة أن نقصان الصلوات المكتوبة وإتمامها من النوافل يتناول بعمومه ترك بعضها عمداً، كما يقتضيه ظاهر عموم اللفظ كما ترى). (105) 5- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر! إنه سيكون بعدي أمراء، يميتـون الصلاة، فصل الصلاة لوقتها، فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك)) (106) فهذا دليل على أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها غير كافر. 6- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجلد جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق، قال: علام جلدتموني؟ إنك صليت صلاة واحدة بغير طهور، ومررت، على مظلوم فلم تنصره)) (107) قال الطحاوي: (في هذا الحديث ما قد دل أن تارك الصلاة لم يكن بذلك كافراً؛ لأنه لو كان كافراً، لكان دعاؤه باطلاً، لقوله تعالى: وَمَا دُعَآء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [غافر: 50]) (108) 7- وعن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للإسلام صوى، ومناراً كمنار الطريق، منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً، فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره)) (109) 8- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا، فوالذي نفسي بيده ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار. قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، ويجاهدون معنا فأدخلتهم النار. قال: فيقول اذهبوا، فأخرجوا من عرفتم منهم. فيأتونهم، فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم… فيخرجون منها بشراً كثيراً، فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا. قال: ثم يعودون فيتكلمون، فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا فمن كان في قلبه وزن نصف دينار، فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة، فيخرجون خلقاً كثيراً. قال: فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير، قال ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين. قال: فيقبض قبضة من النار – أو قال قبضتين – ناساً لم يعملوا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً. قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له: الحياة، فيصب عليهم - إلى أن قال صلى الله عليه وسلم -: فيقال لهم: ادخلوا الجنة...)) الحديث (110) قال الشيخ ناصر الدين الألباني عن هذا الحديث: - (فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله، أنه لا يخلد في النار مع المشركين، ففيه دليل قوي جداً أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله: - إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء[النساء: 48]) (111) 9- واحتجوا بجملة من عمومات الأحاديث: كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)). (112) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) (113) وما جاء في معناهما… (114) 10- واحتجوا بالإجماع قائلين:- (لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه، ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فرق بين زوجين لترك صلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت هذه الأحكام كلها، ولا نعلم بين المسلمين خلافاً في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام). (115) وأجاب هذا الفريق عن أدلة مكفري تارك الصلاة بأجوبة منها:- 1- قالوا: تحمل أحاديث تكفير تارك الصلاة على كفر النعمة، كقوله صلى الله عليه وسلم:((من تعلم الرمي، ثم تركه، فهي نعمة كفرها)) (116) وقوله: - ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (117) وقوله: - ((من حلف بغير الله فقد كفر)) (118) وبعضهم يقول – كالشوكاني – إن كفر تارك الصلاة إنما هو كفر دون كفر، فلا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة. (119) 2- إن الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة كحديث جابر وبريدة رضي الله عنهما إنما هي على سبيل التغليظ والزجر الشديد لا على الحقيقة، فظاهرها غير مرادها (120) 3- إن مثل هذه النصوص محمولة على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب القتل. قال النووي: - وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده. (121) 4- المراد من هذه الأحاديث من استحل ترك الصلاة، أو تركها جحوداً بلا عذر. (122) (ج) أجوبة المكفرين عن أدلة الآخرين:- وقد أجاب القائلون بتكفير تارك الصلاة عن أدلة الآخرين بما يلي:- 1- أما حديث عبادة بن الصامت: - ((خمس صلوات..)) الحديث فهذا الوعد الكريم إنما هو بالمحافظة عليها، والمحافظة: فعلها في أوقاتها كما أمر، قال تعالى: - حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها وعلى غيرها من الصلوات. وقد دل الكتاب والسنة، واتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت، والفرق بين من يتركها. ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال، لكان الجميع سواء، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا، ولم يحافظوا عليها (123) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: - ((ومن لم يفعل فليس له على الله عهد..)) معناه: أنه لم يأت بهن على الكمال، وإنما أتى بهن ناقصات من حقوقهن، كما جاء مفسراً في بعض الروايات:((ومن جاء بهن، وقد انتقص من حقهن شيئاً، جاء وليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء رحمه)) (124) قال محمد بن نصر المزوري: - (فمن أتى بذلك كله كاملاً على ما أمر به، فهو الذي له العهد عند الله تعالى بأن يدخله الجنة، ومن أتى بهن، لم يتركهن، وقد انتقص من حقوقهن شيئاً، فهو الذي لا عهد له عند الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا بعيد الشبه من الذي يتركها أصلاً لا يصليها). (125) 2- وأما حديث حذيفة – والذي جاء فيه -: ((تنجيهم لا إله إلا الله)) فهو محمول على زمن الفترات، حيث تضمن هذا الحديث الإخبار عما يحصل في آخر الزمان من محو الإسلام، ورفع القرآن حتى لا يبقى منه آية، حتى لا يُدْرَى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، فيغفر الله لهؤلاء مالا يغفر لغيرهم ممن قامت عليهم الحجة، وظهرت آثار الرسالة في وقتهم، وقد أشار ابن تيمية إلى زمانه، وما كان عليه الكثير من الناس من الوقوع في أنواع الكفر فقال عنهم -: وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات، يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صياماً ولا حجاً.. الحديث)) (126). فإذا كان هؤلاء معذورين مع وجود أهل العلم، ووجود القرآن والسنة بين أظهرهم... فكيف لا يعذر بترك الصلاة ونحوها من كان في زمان يمحى فيه الإسلام، ويرفع فيه القرآن فلا يبقى منه في الأرض آية؟ فينبغي مراعاة أحوال الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولعل مما يؤكد ما ذكرناه أن راوي الحديث السابق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما رأى رجلاً لا يتم الركوع والسجود، قال: (ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم) (127) . يقول ابن حجر: - (واستدل به على تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى) (128) فتأمل تنوع الجوابين لاختلاف الزمان والحال والله أعلم 3- وأما استدلالهم بحديث أبي ذر مرفوعاً: ((إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة..))الحديث، فقد أجاب محمد بن نصر عن استدلالهم بما يلي: (ليس في هذه الأخبار التي احتججتم بها دليل على أن تارك الصلاة عمداً، حتى يخرج وقتها لا يكفر، متعمدين لتركها حتى يذهب وقتها. إنما قال في حديث عبادة يكون عليكم أمراء يشغلهم أشياء عن الصلاة، فإنما أخروها عن الوقت الذي كانت تصلى فيه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين... فكانوا يؤخرونها عن وقت الاختيار إلى وقت أصحاب العذر.. ولا يؤخرونها حتى يخرجوا من وقت أصحاب العذر كله، فلم يكونوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت كله، إنما كانوا يؤخرونها عن وقت الاختيار، ويصلون في آخر وقت العذر، فلذلك لم يثبت عليهم الكفر). (129) وأجاب ابن تيمية قائلاً: (وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها،((صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة)) (130) . وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر، والعصر إلى وقت الاصفرار، وذلك مما هو مذمومون عليه، ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس، فإن هؤلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، ونهى عن قتال أولئك، فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء يفعلون ويفعلون، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: - (لا، ما صلوا) وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها، وأمر أن نصلي في الوقت، وتعاد معم ناقلة، فدل على صحة صلاتهم، ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم) (131) . - واستكمالاً لأجوبة القائلين بتكفير تارك الصلاة، نضيف ما يلي: - 4- أما استدلالهم بقوله تعالى: -إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِالآية [النساء: 48]، فقد تقرر بالأدلة أن ترك الصلاة كفر وشرك، كما جاء في حديث جابر مرفوعاً: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (132) ، فيكون ترك الصلاة داخلاً في عموم الآية من جهة الدلالة على أن ذلك مما لا يغفره الله تعالى، وبهذا نصدق بجميع تلك النصوص، ويتحقق إعمالها دون إهمالها. وأما احتجاجهم بحديث أبي ذر مرفوعاً: ((لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة)) ففي سنده قدامة بن عبدالله بن عبدة البكري، قال عنه ابن حجر: - (مقبول) (133) ، وفي سنده جسرة بنت دجاجة، قال البيهقي: فيها نظر، وقال البخاري في تاريخه: - وعند جسرة عجائب (134) . وقد أورد ابن خزيمة هذا الحديث بصيغة تشعر بعدم صحته، فعقد باباً بعنوان: - (باب إباحة ترديد الآية الواحدة في الصلاة مراراً عند التدبر والتفكر في القرآن إن صح الخبر)، ثم ساق الحديث المذكور (135) ويمكن أن يقال: أن الحديث علق ترك الصلاة بأمر ممتنع لا يمكن الاطلاع عليه، فمن المعلوم أن (لو) حرف امتناع لامتناع، وبهذا نعلم أن هذه الرواية قد قيدت بوصف يمتنع معه ترك الصلاة. 6. وأما احتجاجهم بحديث عائشة: ((الدواوين ثلاثة...))ففيه صدقة بن موسى وقد ضعفه الجمهور (136) . قال يحيى بن معين: ( ليس حديثه بشيء). وقال أبو حـاتم: (لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالقوي) (137) . وفيه يزيد بن بابنوس، قال عنه الذهبي: (فيه جهالة) (138) . وضعف الألباني هذا الحديث. (139) ولو صح الحديث فيحمل على من يقع أحياناً في ترك صلوات، دون أن يتركها بالكلية، ويشهد لذلك لفظ الحديث حيث جاء فيه: ((من صوم يوم تركه أو صلاة تركها)) 7- وكذا يقال بالنسبة لحديث عبدالله بن مسعود: ((أول ما يحاسب به العبد الصلاة...))الحديث فإن مناط التكفير لتارك الصلاة إنما هو الترك المطلق، بحيث يترك الصلاة جملة، وأما ترك بعض الصلوات فلا يكون كفراً، كما يدل عليه ظاهر الحديث،..... بل إن بعض مرويات هذا الحديث تكاد تشهد بكفر تارك الصلاة، فعن أنس مرفوعاً:((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) (140) فجعل صلاح الصلاة وصحتها شرطاً في صلاح سائر الأعمال وصحته، وأن فسادها شرط في فساد باقي الأعمال. ولذا قال الإمام أحمد بن حنبل: - (وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة)) (141) ...فصلاتنا آخر ديننا، وهي أول ما نسأل عنه غداً من أعمالنا، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام، فكل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه... (142) . 8- وأما حديث: ((أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة..)) الحديث (143) ففي سنده عاصم بن بهدلة تكلموا في حفظه... (144) وقال ابن حجر: - (صدوق، وله أوهام) (145) وفيه: جعفر بن سليمان الضبعي، صدوق زاهد، لكنه كان يتشيع. (146) إضافة إلى ذلك، فقد جاء في رواية هذا الحديث: - صليت صلاة واحدة بغير طهور فهو إذاً ليس تاركاً للصلاة بالكلية بتركه الوضوء، وإنما هي صلاة واحدة... وهناك فرق ظاهر بين من تركها بالكلية... ومن ترك صلاة واحدة وقد يفعل بعض المسلمين ذلك، فيصلي بغير وضوء، فيكون مستحقاً للذم والعقاب، وقد يفعله مع اعترافه بالذنب فلا يكفر، كما ظن بعض الأحناف عندما أطلقوا كفر من صلى بغير طهارة (147) ، ولكن لو فعله على سبيل الاستهانة والاستخفاف فهو كافر (148) فكيف بحال هذا الرجل الذي كان مداوماً على الوضوء والصلاة.. لكنه صلى صلاة واحدة بغير وضوء؟ وأما قوله: - إن دعاء الكافرين داخل في قوله تعالى: - وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [غافر: 50] فلا يستجاب لهم، فهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فقد يدعو الكافر ربه فيستجاب له، كما جاء ذلك في آيات كثيرة من القرآن. قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 40- 41]. وقال سبحانه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] وأما دعاء الكافرين لغير الله تعالى فهو ضلال، كما هو ظاهر الآية التالية: - لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [الرعد: 14]. كما ينبغي مراعاة الفرق بين حياة البرزخ كما جاء في الحديث الذي استدلوا به، ودخول دار الجزاء (الجنة أو النار) كما في الآية: - وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [غافر: 50] ففي البرزخ قد يقع التكليف كما في سؤال الملكين، وكذا في عرصات القيامة يدعون إلى السجود، وأما بدخول دار الجزاء فينقطع التكليف، كما في الآية. (149) إضافة إلى ذلك فهذا الحديث – المتكلم على سنده ومتنه – معارض لحديث صحيح صريح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: -((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده)) (150) 9- وأما الحديث الذي أخرجه الخلال وفيه أن مولى للأنصار مات وكان يصلي ويدع، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله والصلاة عليه ودفنه.. فهذا الحديث في سنده مقال.. فأبو شميلة مختلف في صحبته... وقد ذكر الذهبي وابن حجر وغيرهما قصة تدل على صحبته، لكن في سندها محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. (151) وفيه عبدالوهاب بن عطاء، قال عنه ابن حجر: - صدوق، ربما أخطأ (152) وضعف الألباني هذا الحديث في (الضعيفة). (153) ولو صح الحديث فلا دلالة فيه على أن الترك المطلق للصلاة لا يعد كفراً، وهذا المولى كان يصلي ويدع، فلم يكن تاركاً للصلاة بالكلية، وفرق بين من يحافظ على تركها، ومن يصلي ويدع فهو غير محافظ على فعلها والله أعلم. 10- وأما حديث: ((إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق...)) الحديث. فليس فيه دلالة ظاهرة على عدم كفر تارك الصلاة... ولقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن من ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن المعلوم أن تلك )المنارات( متفاوتة، فمنها ما تركه يناقض الملة كالإيمان بالله تعالى، ومنها ما تركه ينافي كمال الإيمان الواجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها ما تركه يعد تفويتاً لكمال الإيمان المستحب كالسلام. 11 – وأما استدلالهم بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الشفاعة، وكذا عمومات الأحاديث الأخرى.. فهذه من نصوص الوعد، التي لابد من الإيمان بها، وضمها إلى ما يقابلها من نصوص الوعيد، فالذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب، قد تبين سبحانه أنه مشروط بأن لا يتوب، فإن تاب، تاب الله عليه، وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه، فهكذا الوعد له تفسير وبيان فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله وكذب الرسول فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئاً مما أنزل الله... (154) فاستدلالهم بعموم الأحاديث التي فيها من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وما جاء في معناها، ولم يشترط إقامة الصلاة لذلك... لا دلاله فيها على أن تارك الصلاة لا يكفر؛ لأن المراد بقول لا إله إلا الله تحقيق شروطها وترك نواقضها، وقد تقرر بالأدلة أن ترك الصلاة كفر، فلا اعتبار بمجرد الإقرار بالشهادتين مع عدم أداء الصلاة. (155) ومثل هذه الأحاديث التي قد يكون فهمها مشكلاً أو مشتبهاً على البعض، فإنه يجب ردها إلى الأحاديث الواضحة المحكمة، فنصوص الكتاب والسنة يصدق بعضها بعضاً. ويقال – أيضاً – إن هذه العمومات يمكن تخصيصها بأحاديث كفر تارك الصلاة. (156) يقول ابن الوزير: - (ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع، واضطر إلى التحكم والتلون من غير حجة بينة). (157) وقد عقد إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله في كتاب التوحيد باباً بعنوان: - (باب ذكر الدليل أن جميع الأخبار التي تقدم ذكري لها إلى هذا الموضع في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج أهل التوحيد من النار إنما هي ألفاظ عامة مرادها خاص). ثم أورد أدلته على ذلك (158) بل إن في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره من أحاديث الشفاعة لعصاة الموحدين ما يدل على أن تارك الصلاة كافر... فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود)) (159) فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله. (160) وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن من كان مسلماً، ولكنه كان لا يصلي لا يخرج إذ لا علامة له. (161) وإن كانوا يحتجون برواية ((لم يعملوا خير قط)) على عدم كفر تارك الصلاة، في نفس الوقت يدفعون توهم من زعم أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار، كما قال ابن حجر: - (ورد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث) (162) فكذا يقال أيضاً أن هذا الخير المنفي ما زاد على فعل الصلاة كما جاءت بذلك النصوص. وقال ابن خزيمة: - (هذه اللفظة((لم يعملوا خيراً قط)) من الجنس الذي يقول العرب: ينفي الاسم عن الشيء لنقصه على الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل، لم يعملوا خيراً قط، على التمام والكمال..) (163) . 12 - وأما دعواهم الإجماع – على فرض صحتها – فهي منقوضة ومردودة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم كما نقله أبو هريرة رضي الله عنه، وعبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله، فالإجماع على مراتب، وأقواها إجماع الصحابة رضي الله عنهم. (164) . وقولهم لا نعلم بين المسلمين خلافاً لا يعد إجماعاً (165) ، ونفي العلم ليس علماً بالنفي. إضافة إلى ذلك فإنه قد يصعب القطع بأن فلاناً لا يصلي تماماً، خاصة أن من ادعى أنه صلى في أهله وبيته، قبل منه، كما دل عليه حديث محجن – وقد تقدم – وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لمحجن: ((ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟)) قال محجن: بلى يا رسول الله، ولكني صليت في أهلي وقد استنبط ابن عبدالبر من هذا الحديث أن من أقر بالصلاة وإقامتها أنه يوكل إلى ذلك إذا قال إني أصلي؛ لأن محجناً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد صليت في أهلي، فقبل منه. (166) وقال الإمام الشافعي رحمه الله: - (من قيل أنه لا يصلي فكذبهم صدق). (167) وقال النووي: - (إذا أراد السلطان قتله، فقال: صليت في بيتي ترك). (168) إن الترك للصلاة – والذي يعد ناقضاً من نواقض الإيمان – لا يتحقق في المعين إلا بالإصرار على تركها، والأصل في المسلم فعل الصلاة حتى يثبت ما يناقض ذلك، فمن أظهر أداء الصلاة فهو المسلم حكماً وظاهراً، وقد يكون مؤمناً عند الله، وقد يكون منافقاً كافراً، فليس كل من قيل عنه أنه كافر، تجرى عليه أحكام الكفر. (169) يقول ابن تيمية: - (إن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً، ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام). (170) وأما قولهم: إن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام.. فقد أجاب عنه محمد بن نصر المروزي بقوله: - (إن الكافر الذي أجمعوا على أنه لا يؤمر بقضاء ما ترك من الصلاة هو الكافر الذي لم يسلم قط، ثم أسلم، فإنهم أجمعوا على أنه ليس عليه قضاء ما ترك من الصلاة في حال كفره... فأما من أسلم ثم ارتد عن الإسلام، ثم رجع فإنهم قد اختلفوا فيما ضيع في ارتداده من صلاة وصيام وزكاة وغير ذلك، فكان الشافعي يوجب عليه قضاء جميع ذلك). (171) ثم قال: - (فإذا ترك الرجل صلاة متعمداً حتى يذهب وقتها فعليه قضاؤها، لا نعلم في ذلك اختلافاً، إلا ما يروى عن الحسن، فمن أكفره بتركها استتابه، وجعل توبته، وقضاءه إياها رجوعاً منه إلى الإسلام، ومن لم يكفر تاركها ألزمه المعصية، وأوجب عليه قضاءها). (172) وقال أبو الوفاء ابن عقيل:- (من كان كفره بترك الصلاة، لا بترك كلمة الإسلام، فهو إذا عاود فعل الصلاة صارت معاودته للصلاة إسلاماً). (173) وقال ابن تيمية: - (من كفر بترك الصلاة: الأصوب أن يصير مسلماً بفعلها، من غير إعادة الشهادتين؛ لأن كفره بالامتناع كإبليس). (174) والآن ننتقل إلى مناقشة أجوبة القائلين بعدم التكفير لأدلة الفريق الأول. 1- فأما حملهم أحاديث تكفير تارك الصلاة على كفر النعمة، فهذا غير مستقيم، ولا يخفى ما فيه من تكلف..فهل يسوغ أن يكون معنى حديث جابر بين الرجل وبين كفر النعمة ترك الصلاة؟ لقد بين الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله فساد هذا القول عند أهل اللغة، ثم علل ذلك قائلاً: - (وذلك أنهم (أي العرب) لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه، وهو كالمخبر عن نفسه بالعدم، وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد منَّ الله عليه بالسلامة وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب فهذا الذي تسميه العرب كفراناً إن كان ذلك فيما بينهم وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه، ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: - ((إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير – يعني الزوج – وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: - ما رأيت منك خيراً قط)) (175) فهذا ما في كفر النعمة) (176) . وأما قولهم إنه كفر دون كفر، فقد سبق بيان أن الكفر جاء معرفاً كما في حديث جابر مما أفاد التخصيص والعهد، وفرق بين هذا وبين كفر منكر... إضافة إلى ذلك فإن حديث بريدة مرفوعاً: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) قد جعل الصلاة حداً فاصلاً بين المسلمين عن غيرهم، ولا يتصور أن يكون كفراً دون كفر؛ لأنه لا يكون حداً فاصلاً بين المسلمين والكافرين، فهناك من المسلمين من يقع في مثل هذا الكفر، وإن لم يكن مؤمناً بإطلاق. (177) 2- وأما قولهم إن الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة إنما هي على سبيل التغليظ والزجر الشديد لا على الحقيقة فظاهرها غير مراد. فالجواب أن يقال: هذا كلام فيه إجمال وإيهام، فلا شك أن هذه الأحاديث فيها تغليظ وتخويف، وهي على الحقيقة، نؤمن بذلك ولا نكذب، ونمرها كما جاءت ونأخذ بظاهرها المفهوم منها، وإذا كان عامة السلف الصالح يقرون أحاديث الوعيد – فيما دون الكفر – ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود قائلها صلى الله عليه وسلم (178) ، فكيف ساغ لهؤلاء صرف نصوص تكفير تارك الصلاة عن ظاهرها، وجعله وعيداً لا حقيقة له! إن الإيمان بالنصوص الشرعية – ومنها نصوص الوعيد – يوجب التسليم لها والانقياد، كما يقتضي إجلالها وتعظيمها، وقد التزم سلف الأمة هذا النهج، (فقد قال الرجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لطم الخدود)) (179) ، ((وليس منا من لم يوقر كبيرنا)) (180) وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: - من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم). (181) " ولما ذكر عبدالله بن المبارك – رحمه الله – حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...)) (182) ، فقال فيه قائل: ما هذا! على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. (183) ومما يحسن إيراده في هذا الموضع ما قاله ابن تيمية: " ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله.. فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه. (184) وعلى كل فإن الاسترسال مع قول من قال إن هذا وعيد للتغليظ ولا حقيقة له، قد يؤول إلى تعطيل الشريعة وإبطال العقاب... (185) وقد نبه جمع من أهل العلم لخطورة ذلك. فقال أبو عبيد القاسم بن سلام – جواباً عمن حمل نصوص الوعيد على التغليظ: - (وأما القول المحمول عل التغليظ فمن أفظع ما تأول على رسـول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقـة له، وهذا يؤول إلى إبطـال العقاب؛ لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها، كان ممكناً في العقوبات كلها). (186) وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: - (المرجئة كلما سمعوا حديثاً فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن من يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده. وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده، ولا يرجو وعده). (187) وقال ابن حزم: - (وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد لا على معنى الحقيقة، فقد اضمحلت الشريعة بين يديه، ولعل وعيد الكفار أيضاً كذلك، ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه؛ لأنه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها إذ لعلها ندب، ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد، وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الإسلام؛ لأنه تكذيب لله عز وجل). (188) وقال القاسمي – معلقاً على ما قاله الزمخشري عن حديث:((آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى..)) (189) : للتغليظ: - (قول الزمخشري (فللتغليظ) يوجد مثله لثلة من شراح الحديث وغيرهم وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله: - هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه أدنى عالم أن ينسب إليه، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر. انتهى، وقال بعض المحققين: عليك أن تقر الأحاديث كما وردت، لتنجو من معرة الخطر). (190) 3 - وأما قولهم: إن مثل هذه النصوص محمولة على أن شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب القتل... فالجواب أن يقال: - ما المسوغ لاستحلال دم تارك الصلاة وهو ليس بكافر عندكم؟ لقد تقرر – شرعاً – أن قتل المسلم لا يستباح إلا بإحدى ثلاث:- ترك دين، وإراقة الدم المحرم، وانتهاك الفرج المحرم. فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: - الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) (191) فتارك الصلاة ليس قاتلاً، ولا زانياً محصناً، فلم يبق إلا أن يكون إباحة دمه من أجل ردته. يقول ابن حزم – وهو ممن يرى عدم كفر تارك الصلاة – جواباً عن القائلين بقتل تارك الصلاة دون كفره:- (أما مالك والشافعى فإنهما يريان تارك الصلاة مسلماً؛ لأنهما يورثان ماله، وولده، ويصليان عليه، ويدفنانه مع المسلمين... فإذا ذلك كذلك فقد سقط قولهما في قتله؛ لأنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو نفس بنفس، وتارك الصلاة متعمداً لا يخلو أن يكون كافراً. أو يكون غير كافر، فإن كان كافراً فهم لا يقولون بذلك... فإذا ليس كافراً، ولا قاتلاً، ولا زانياً محصناً.. فدمه حرام بالنص). (192) 4 - أما قولهم إن المراد بهذه الأحاديث من استحل ترك الصلاة، أو تركها جحوداً... فجوابه أن يقال:- إن هذه الأحاديث – كحديث جابر وبريدة ونحوهما... قد علقت الكفر بترك الصلاة، فمناط الحكم بالكفر فيها ترك الصلاة، وقد يكون هذا الترك جحوداً، أو تهاوناً وكسلاً. فمن قال إن تارك الصلاة لا يكفر إلا إذا كان جاحداً لوجوبها، فقد جعل مناط الحكم في هذه المسألة غير ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه على هذا التأويل لا فرق بين الصلاة وغيرها، فلا تكون إقامتها عهداً وحداً يعرف به المسلم من الكافر؛ لأن من ترك شيئاً من شعائر الإسلام وفرائضه الظاهرة جحوداً لوجوبها فهو كافر بالإجماع، فجحد الوجوب لا يختص بالصـلاة وحدها، مع أن الصحابة رضي الله عنهم قد جعلوا ترك الصلاة هو مناط الكفـر دون بقية الأعمال، كمـا حكى ذلك عنهم أبو هريرة رضي الله عنه وعبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله. (193) ومن المناسب – في خاتمة هذه المناقشة – أن نشير إلى أن بعض القائلين بعدم تكفير تارك الصلاة، قد سلكوا في بعض استدلالهم مسلك الإرجاء. فهم يقولون – مثلاً – إن الكفر جحود التوحيد، وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول، وهذا يقر بالوحدانية شاهداً أن محمد رسول الله، مؤمناً بأن الله يبعث من في القبور، فكيف يحكم بكفره؟ والإيمان هو التصديق، وضده التكذيب، لا ترك العمل، فكيف يحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد؟ (194) وجواباً عن ذلك نقول: قد تقرر عند أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، فليس تصديقاً فحسب، ومن ثم فإن مقابله هو الكفر قول وعمل، فقد يكون الكفر قولاً قلبياً، وقد يكون عملاً قلبياً، وتارة قولاً باللسان، وتارة عملاً بالجوارح ... ويقـول أيضاً: - يلزم من تكفير تارك الصلاة أن يكفر القاتل والشاتم للمسلم، وأن يكفر الزاني، وشارب الخمر... (195) والجواب: - أن هذا اللازم يلزم المبتدعة عموماً... سواء كانوا وعيدية أو مرجئة والذين جعلوا الكفر خصلة واحدةً، بناء على ظنهم الفاسد أن الإيمان شيء واحد يزول كله بزوال بعضه، وقد دلت النصوص أن الكفر مراتب وشعب متفاوتة، كالإيمان، فمن شعب الكفر ما يخرج من الملة، ومنها مالا يخرج من الملة. الترجيح بعد هذا العرض التفصيلي لأدلة الفريقين واستدلالاتهم ومناقشتها، يظهر أن أدلة القائلين بتكفير تارك الصلاة أصح وأقوى. (196) إلا أن الراجح ... ولعله القول الوسط بين الطرفين، وبه تجتمع الكثير من أدلة الفريقين، وهو أن يقال: إن ضابط ترك الصلاة الذي يعد كفراً – ها هنا – هو الترك المطلق الذي هو بمعنى ترك الصلاة من حيث الجملة الذي يتحقق بترك الصلاة بالكلية، أو بالإصرار على عدم إقامتها، أو بتركها في الأعم الأغلب، وليس مناط التكفير – ها هنا – مطلق الترك للصلاة بحيث يلزم أن نكفر كل من ترك صلاة واحدة أو بعض صلوات (197) . ويشهد لذلك جملة من الأدلة، منها ما يلي: - 1- قوله تعـالى: - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] فالمراد من تضييع الصلاة – هاهنا – تركها بالكلية كما قاله محمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم والسدي واختاره ابن جرير. (198) 2 - وقوله صلى الله عليه وسلم ... ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة)) فهذا الحديث صريح في الفرق بين الترك المطلق، وبين مطلق الترك.. يقول ابن تيمية رحمه الله: - (فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها...) (199) ثم قال: (فإن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة...) (200) ويقول في موضع آخر: - _فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن حديث عبادة بن الصامت – ثم ساق الحديث المذكور -) (201) 3- قوله صلى الله عليه وسلم:((إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلا نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه)) (202) والانتقاص هنا عام يتناول ترك الأداء لبعض الصلوات... وهذا من مطلق الترك الذي لا يعد كفراً، ومن ثم صارت مقبولة، وأكملت بالتطوع، والله أعلم. (206)

المبحث الثالث  :

                       الزكاة

المطلب الأول  :

               تشريع الزكاة

وأما الزكاة فقد تقدم ذكرها في نصوص الصلاة وغيرها ومما يتعلق بها على انفرادها قوله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهُمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَالله سَمِيعٌ عَلِيم [التوبة: 103]وقوله في صفات عباده المؤمنينوَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ[المؤمنون: 4] وقوله تعالى في ذم الكفار ووعيدهم وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت: 6-7] وإن كانت هذه الآية في زكاة النفوس فهي عامة لزكاة الأموال أيضا وقد فسرت بها وقوله تعالى في وعيد مانعيها مطلقا وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34-35]... وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها من نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل: يا رسول الله فالإبل قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطأه بأخفافها وتعضه فأفواهها كلما مر عليه أولاها أعيد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا رسول الله فالبقر والغنم قال ولا صاحب بقر وغنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عفصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)) (1) الحديث بطوله. وفيه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد يوم القيامة بقاع قرقر تطأه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن الحديث وفيه ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه ويقال: هذا مالك الذي كنت تبخل به فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل)) (2). وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول: يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت ولا يأتي أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت)) (3) . وفيه عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَالآية [آل عمران:180])) (4) وفيه عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال أعرابي أخبرني عن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34] قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له إنما كان هذه قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله تعالى طهرة للأموال (5) . وقد ثبتت البيعة عليها بعد الصلاة كما قال البخاري رحمه الله تعالى (باب البيعة على إيتاء الزكاة) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة: 11] حدثنا ابن نمير قال حدثني أبي قال حدثنا إسماعيل عن قيس قال: قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (6) والنصوص فيها كثيرة وفي ما تقدم كفاية. (18) المطلب الثاني: حكم مانع الزكاة أما حكم تاركها فإن كان منعه إنكارا لوجوبها فكافر بالإجماع بعد نصوص الكتاب والسنة وإن كان مقرا بوجوبها وكانوا جماعة ولهم شوكة قاتلهم الإمام لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب فقال عمر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل)) فقال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ولو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر رضي الله عنه فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق – وفي رواية – فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق (7) . وهذا الذي استنبطه أبو بكر رضي الله عنه مصرح به في منطوق الأحاديث الصحيحة المرفوعة كحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل)) (8) وغيره من الأحاديث. وقد جهز النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لغزو بني المصطلق حين بلغه أنهم منعوا الزكاة ولم يكن ما بلغه عنهم حقا فروى الإمام أحمد قال: حدثنا محمد بن سابق حدثنا عيسى بن دينار حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: ((قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول ولم يأته وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فدعا بسروات قومه وقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق- أي خاف – فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم إلى من بعثتم قالوا إليك قال ولم قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي قال رضي الله عنه: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني ولا أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قال فنزلت الحجرات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6])) (9)ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار عن محمد بن سابق به ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به. وقال ابن جرير رحمه الله تعالى حدثنا أبو كريب حدثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله قالت فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قالت فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلا مصدقا فسررنا بذلك وقررت به أعيننا ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن لصلاة العصر قالت ونزلت أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[الحجرات: 6])) (10) . وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات وأنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقونه رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق وإنا خشينا أنما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله وأن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهم بهم فأنزل الله تبارك وتعالى عذرهم في الكتاب فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]إلى آخر الآية)) (11) وقال مجاهد وقتادة: ((أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم فتلقوه بالصدقة فرجع فقال إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك زاد قتادة وأنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم وأمره أن يتثبت ولا يعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى هذه الآية)) (12) وذكر البغوي رحمه الله تعالى نحو حديث ابن عباس وفيه((فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله تعالى فبدا له في الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدوم قومه وقال له انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وأن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فأنزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]الآية)) (13) وأما إن كان الممتنع عن أداء الزكاة فردا من الأفراد فأجمعوا على أنها تؤخذ منه قهرا واختلفوا من ذلك في مسائل: إحداها هل يكفر أم لا؟ فقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر إلا الصلاة (14) وقال أيوب السختياني: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق وحكى إسحاق عليها إجماع أهل العلم وقال محمد بن نصر المروزي هو قول جمهور أهل الحديث وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمس عمدا أنه كافر وروى ذلك سعيد بن جبير ونافع والحكم وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو قول ابن حبيب من المالكية... وقال ابن عيينة المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم وليس سواء لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر كفر وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه. المسألة الثانية هي يقتل أم لا؟ الأول هو المشهور عن أحمد رحمه الله تعالى ويستدل له بحديث ابن عمر رضي الله عنهما((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) (15)الحديث والثاني لا يقتل وهو قول مالك والشافعي ورواية عن أحمد رحمهم الله تعالى وروى اللالكائي من طريق مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس ولا أحسبه إلا رفعه قال: عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم رمضان من ترك منهن واحدة فهو بها كافر ويحل دمه وتجده كثير المال ولا يزكي فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ورواه قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد مرفوعا مختصرا ورواه سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعا وقال من ترك منهن واحدة – يعني الثلاث الأول – فهو بالله كافر ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله ولم يذكر ما بعده (16) . المسألة الثالثة لمن لم ير قتله هل ينكل بأخذ شيء من ماله مع الزكاة؟ وقد روى في خصوص المسألة حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا بها فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم (17)وعلق الشافعي القول به على ثبوته فإنه قال: لا يثبته أهل العلم بالحديث ولو ثبت لقلنا به (552). (19) المبحث الرابع  :

                     الصوم

الركن الرابع من أركان الإسلام الصيام وهو في اللغة الإمساك وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة. وكان فرض صوم شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة هو والزكاة قبل بدر قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 183-185]إلى آخر الآيات (1)

المبحث الخامس  :

                      الحج

الركن الخامس الحج وهو (على من يستطع) أي استطاع إليه سبيلا قال الله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97]قد ذكر الله تعالى تفصيله في سورة البقرة من قوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ -إلى قوله- إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة: 196]. واشتراط الاستطاعة فيه مصرح به في الآية وفي حديث جبريل وفي حديث معاذ وغيرها وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة. ولا خلاف في كفر من جحد فرضيته وتقدم الخلاف في كفر تاركه مع الإقرار بفرضيته. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تعجلوا الحج – يعني الفريضة – فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) (1) (554) ورواه أبو داود بلفظ: ((من أراد الحج فليتعجل)) (2) ... وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) (3) ورواه مسلم (4) بنحو هذا والله أعلم. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس إن الله تعالى كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل عام فقال لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم يعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فهو تطوع)) المبحث السادس  :

       حكم تارك الأركان الأربعة

الأركان الأربعة -

        يعني سوى الشهادتين -

في تكفير تاركها أو بعضها مع الإقرار بالوجوب، خلاف معروف، وقد ذكر شيخ الإسلام الخلاف في ذلك، وعرض الأقوال- ذاكراً ما كان منها رواية عن الإمام أحمد- فقال: 🌻(...أحدهما: أنه يكفر بترك واحدة من الأربعة حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء، فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد اختارها أبو بكر. 🌻🌻الثاني: أنه يكفر بترك شيء من ذلك مع الإقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره. 🌻🌻🌻الثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة، وهي الرواية الثالثة عن أحمد، وقول كثير من السلف، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد. 🌻🌻🌻🌻الرابع: يكفر بتركها (أي الصلاة)، وترك الزكاة فقط. 🌻🌻🌻🌻🌻الخامس: بتركها، وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج...). وليس مقصودنا في هذا المبحث، ذكر الأدلة أو الترجيح بينها، وإنما المقصود أن نبين أن قول السلف ترك جنس العمل يختلف عن قولهم في مسألة ترك الأركان، فالأول أمر لم يخالف فيه منهم أحمد لأنه مقتضى إجماعهم على حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل، أما الثاني فهو من مسائل الاجتهاد، وإن كان بين الأمرين علاقة، لكن ينبغي أن نعلم: أن الخلاف الأهم والأقوى هو خلافهم في مسألة ترك الصلاة كسلاً وهو ما سنشير إليه، أما غير الصلاة فالأقرب وهو قول الأكثرين عدم تكفير تاركها- ما لم يقاتل الإمام عليها- فالزكاة بالإضافة إلى أخذها من الفرد بالقوة في حديث: ((إنا آخذوها وشطر ماله)) (1) ، فقد ورد حديث صريح في عدم تكفير من لا يؤديها، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه، حتى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار..)) الحديث (2) . قال الإمام المروزي- رحمه الله- في تعليقه على هذا الحديث: (...فدل ما ذكرنا أن مانع الزكاة ليس بكافر، ولا مشرك، إذ أطمعه دخول الجنة لقول الله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [النساء: 48]..) (3) ، أما الصوم فيكاد يكون إجماعاً القول بعدم تكفير تاركه، قال الإمام محمد بن نصر- رحمه الله-: (وقد اتفق أهل الفتوى، وعلماء أهل الأمصار على أن من أفطر في رمضان متعمداً أنه لا يكفر بذلك، واختلفوا فيما يجب عليه عند ذلك... فإن أفطر رمضان كله متعمداً، فمنهم من أوجب عليه لكل يوم كفارة مع القضاء،... ولم يقل أحد من العلماء أنه قد كفر) (4) . أما الحج فحيث أنه يجب في العمر مرة واحدة، ومختلف في وجوبه هل هو على الفور أم التراخي؟ فبذلك يصعب الجزم بأنه تارك للحج بالكلية والله أعلم. الفصل الثاني :

       هل الإسلام يزيد وينقص؟

هل الإسلام مثل الإيمان يدخله الزيادة، والنقصان ويدخله الاستثناء أم لا؟ خلاف مشهور. قال في شرح مختصر التحرير: وأما الإسلام فلا يجوز الاستثناء فيه بأن يقول المسلم: إن شاء الله بل يجزم به - قال ابن حمدان في (نهاية المبتدئين): وقيل يجوز إن شرطنا فيه العمل. انتهى. واعلم أن الناس في الإسلام والإيمان على ثلاثة أقوال، فالمرجئة يقولون الإسلام أفضل من الإيمان قالوا: فإنه يدخل فيه الإيمان، وآخرون يقولون الإيمان والإسلام سواء وهم المعتزلة، والخوارج، وطائفة من أهل الحديث والسنة بل حكاه محمد بن نصر عن جمهورهم، والقول الثالث أن الإيمان أكمل وأفضل وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة في غير موضع، وهو المأثور عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كما في شرح الإيمان والإسلام لشيخ الإسلام، وقال: الصحيح أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة كلها. قال: والإمام أحمد رضي الله عنه إنما منع الاستثناء فيه على قول الزهري هو الكلمة، هكذا نقل الأثرم والميموني وغيرهما عنه، وأما على جوابه الآخر الذي لم يختر فيه قول من قال الإسلام الكلمة فيستثني في الإسلام كما يستثني في الإيمان، فإن الإسلام لا يجزم بأنه قد فعل كل ما أمر به من الإسلام ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (1)و((بني الإسلام على خمس)) (2) فجزمه بأنه فعل الخمس بلا نقص كما أمر كجزمه بإيمانه فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً أي في الإسلام كافة أي في جميع شرائع الإسلام. قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: وتعليل الإمام أحمد وغيره من السلف في اسم الإيمان يجيء في اسم الإسلام، فإذا أريد بالإسلام الكلمة فلا استثناء فيه كما نص عليه الإمام أحمد وغيره، وإذا أريد به فعل الواجبات الظاهرة فالاستثناء فيه كالاستثناء في الإيمان. قال شيخ الإسلام: ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلما متميزا عن اليهود، والنصارى تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه، ... والزيادة والنقصان يترتبان على ذلك وبالله التوفيق. وقد علمت ما عليه السلف وأئمة الدين وهو اعتقاد الطائفة الأثرية من أهل الفرقة الناجية بلا مين (3) الفصل الثالث :

         الاستثناء في الإسلام

أي: قول الإنسان (أنا مسلم إن شاء الله). فجمهور أهل السنة والجماعة؛ لا يرون الاستثناء في الإسلام كما يرونه في الإيمان؛ لأن الإسلام غير الإيمان كما علمنا سابقاً. فالإيمان درجات، والناس فيه طبقات: منهم المحسن، ومنهم المؤمن، ومنهم المسلم؛ فالإسلام هو أقل هذه الدرجات، وليس وراءه إلا الكفر؛ فمن لم يكن مسلماً كان كافراً، وأما من لم يكن مؤمناً فقد يكون مسلماً، لأن من نطق بالشهادتين أصبح مسلماً، وتميز عن غيره من الكفار، فتجري عليه أحكام الإسلام. فقد دلت النصوص الشرعية على جواز القول: (أنا مسلم) بدون استثناء؛ كما في قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]. وقوله: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 14]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن هذه الآية: (وهذه الآية مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره على أنه يُستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام. قال الميموني: سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في أنا مؤمن إن شاء الله؟ فقال: أقول: مؤمن إن شاء الله، وأقول: مسلم ولا أستثني. (1) قال: قلت لأحمد: تفرق بين الإسلام والإيمان؟ فقال لي: نعم. فقلت له: بأي شيء تحتج؟ قال لي: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]) (2) . (10) فمن دخل في هذا الدين ونطق بالشهادتين فهو المسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فمثل هذا يقال عنه مسلم، وكل أحد يصح أن يعبر عن نفسه بذلك بدون أن يستثني كما أرشد لذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد، وكما أرشد إلى ذلك الأعراب... وبهذا يعلم أن الصحيح في مسألة حكم الاستثناء في الإسلام أن يقال: مسلم بدون استثناء، وهذا هو المشهور عن سلف الأمة في هذه المسألة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والمشهور عند أهل الحديث أنه لا يستثنى في الإسلام، وهو المشهور عن أحمد رضي الله عنه، وقد روي عنه في الاستثناء) (3) . ... وإنما كان السلف لا يستثنون في الإسلام لأسباب أهمها أمران: الأول: ورد ما يرشد إلى ذلك في نصوص الشرع المطهر، كما في آية الحجرات، وحديث سعد وقد تقدما، وكما في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]. فهذه النصوص فيها إشارة إلى جواز قول: مسلم بدون استثناء، وآية الحجرات واضحة صريحة في الدلالة على ذلك، ولهذا احتج بها على ذلك غير واحد من أهل العلم... الأمر الثاني: أن كل من نطق بالشهادتين صار بذلك مسلماً له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ويكون متميزاً عن اليهود والنصارى تجري عليه أحكام الشرع الجارية على المسلمين، وهذا القدر كل أحد يجزم به بلا استثناء في ذلك. قال شيخ الإسلام: (ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن اليهود والنصارى تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه) (4) . لهذا كان المشهور عن السلف الصالح عدم الاستثناء في الإسلام كما ذكر ذلك شيخ الإسلام فيما تقدم، ومما ورد عنهم في ذلك: ما رواه هشام الأزدي عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين: (أنهما كان يقولان: مسلم، ويهابان مؤمن) (5) . وقال أبو بكر المروزي: (قيل لأبي عبدالله: نقول: نحن المؤمنون؟ قال: نقول: نحن المسلمون) (6) . وقال الأثرم: (قلت لأبي عبدالله: فأما إذا قال أنا مسلم فلا يستثني؟ فقال: لا يستثني إذا قال: أنا مسلم) (7) . أما ما ذكره شيخ الإسلام عن أحمد بن حنبل أن له روايتين في المسألة: إحداهما: بتجويز الاستثناء في الإسلام، فسببه عائد إلى أن للإمام أيضاً روايتين في تعريف الإسلام: إحداهما: أن الإسلام هو الكلمة، والأخرى: أنه أعمال الإسلام الظاهرة كاملة. فإن أريد به الكلمة فلا استثناء، وإن أريد به الأعمال الظاهرة كلها فلا بد من الاستثناء؛ لأن الجزم بفعلها وإتمامها كالجزم بالإيمان سواء. قال شيخ الإسلام: (وأحمد إنما منع الاستثناء فيه – أي: الإسلام – على قول الزهري هو: الكلمة، هكذا نقل الأثرم والميموني وغيرهما عنه. وأما على جوابه الآخر الذي لم يختر فيه قول من قال: الإسلام الكلمة؛ فيستثني في الإسلام كما يستثني في الإيمان، فإن الإنسان لا يجزم بأنه فعل كل ما أمر به من الإسلام... فإذا أريد بالإسلام الكلمة فلا استثناء فيه، كما نص عليه أحمد وغيره، وإذا أريد به من فعل الواجبات الظاهرة كلها، فالاستثناء فيه كالاستثناء في الإيمان. ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن اليهود والنصارى تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به...) (8) . وقال: (.. لكن الإسلام الذي هو أداء الخمس كما أمر به يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنهما لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها) المبحث الأول  :

       هل الإسلام هو الإيمان؟

هل الإسلام هو الإيمان؟ وهل الإيمان هو الإسلام؟ أو غيره. فهذا مما افترقت فيه الطوائف، كافتراقهم في مسمى الإيمان. فقالت الوعيدية: إن الإسلام هو الإيمان والعكس صحيح (1) . وقيل: الإسلام هو الكلمة أي كلمة التوحيد بالشهادتين. والإيمان هو العمل. وهذان القولان لهما وجه صحيح يتضح عند التحقيق في معناهما. وذهب الأشاعرة إلى أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، بأن كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا (2) . وهذا القول فيه حق وباطل..... والقول الصواب الذي عليه أهل التحقيق القول بالتفصيل، وهو إجمالاً: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا. وإذا افترقا اجتمعا. ومعناه: أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في نص واحد من كتاب أو سنة فإن لكل واحد منهما معنى يختص به. فالإسلام: الأعمال الظاهرة ومنها الشهادتان والصلاة.. والإيمان: الأعمال الباطنة من الاعتقادات كالتوكل والخوف والمحبة والرغبة والرهبة… وغيرها. وقد دل على هذا دلائل كثيرة منها اكتفاءً واختصاراً: قوله تعالى في سورة الحجرات: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[الحجرات: 14] فاجتمعا في نص واحد، ونفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام؛ فدل على افتراقهما أنهم مسلمون لكن لم يبلغوا أن يكونوا مؤمنين. وحديث جبريل عليه السلام المشهور وفيه ذكر الإسلام: بالأركان الخمسة، والإيمان: بالأصول الستة. فإنهما اجتمعا في نص واحد، أجاب النبي صلى الله عليه وسلم لكلٍ بمعنى غير الآخر؛ فدل على افتراقهما. وأركان الإسلام الخمسة أعمال ظاهرة، وأصول الإيمان الستة أعمال باطنة، ولا بد منهما جميعاً. وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ((أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وسعد جالسٌ، فترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. فقال: أو مسلماً مالك عن فلان، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، فقلت: مثل ذلك وأجابني بمثله، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، وعاد صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا سعد إني لأُعطي الرجل، وغيره أحب إليَّ منه، خشية أن يكبه الله في النار)) (3) ووجه الدلالة كما في دلالة آية الحجرات، بتفريقه صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم في نص واحد، مما يدل أن لكل منهما معنى يختص به... ومن هنا قال الحافظ بن رجب في جامع العلوم والحكم: قال المحققون من العلماء: كل مؤمن مسلم، فإن من حقَّق الإيمان، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (4) فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح بالأعمال. وليس كل مسلم مؤمناً، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يتحقق القلب به تحقيقاً تاماً، مع عمل جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلماً، وليس بمؤمن الإيمان التام.اهـ. (5) . ومعنى افتراقهما: أن يأتي أحدهما في نص دون الآخر، فعندئذٍ يكون أحدهما بمعنى الآخر، فالإسلام هو الإيمان والعكس صحيح. ولهذا أدلة كثيرة في الوحيين: منها قوله تعالى في سورة آل عمران: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]. وفي أولها قوله سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران: 19]. فاقتضينا أن الدين عند الله الإيمان، ومن يبتغ غير الإيمان ديناً فلن يقبل منه. ومنه قوله تعالى في خطابه للمؤمنين في آيات كثيرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فإن الخطاب أيضاً متوجه للذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، مما يدل على تناول أحدهما الآخر عند الانفراد. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) (6) وفي لفظ آخر:((الإيمان بضع وسبعون)) (7) . فإن الإيمان هنا متناول للإسلام لاشتماله على الصلاة والصيام والحج والزكاة. ولما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه إليه صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) (8) . وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)) (9) . ففي كلا الحديثين المسلم يشمل المؤمن، مما يدل على أنهما بمعنى واحد عند الاجتماع. ومن أصرح الأدلة من السنة على كون افتراقهما يُصِّيرُ معناهما واحداً حديث وفد عبد القيس، المتفق على صحته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من مضر ولا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:((آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس)) الحديث (10) . فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم في الحديث – في هذا الحال المهم، والسؤال الأهم – عن الإيمان بأركان الإسلام، فدل على أنهما بمعنى واحد، مما يفيد أن أحدهما يغني عن الآخر عند الافتراق. (34) واعلم أن (الإيمان والإسلام) يجتمع فيهما الدين كله وقد كثر كلام الناس في (حقيقة الإيمان والإسلام) ونزاعهم واضطرابهم; وقد صنفت في ذلك مجلدات؛ والنزاع في ذلك من حين خرجت الخوارج بين عامة الطوائف. ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع ما يستفاد من كلام الله تعالى فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله فإن هذا هو المقصود. فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء؛ بل نذكر من ذلك - في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله - ما يبين أن رد موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول خير وأحسن تأويلا وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة. فنقول: قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمى (الإسلام) ومسمى (الإيمان) ومسمى (الإحسان). فقال:((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. وقال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)). و(الفرق) مذكور في حديث عمر الذي انفرد به مسلم (11) وفي حديث أبي هريرة الذي اتفق البخاري ومسلم عليه (12) وكلاهما فيه: أن جبرائيل جاءه في صورة إنسان أعرابي فسأله. وفي حديث عمر: أنه جاءه في صورة أعرابي. وكذلك فسر (الإسلام) في حديث ابن عمر المشهور قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)) (13) . وحديث جبرائيل يبين أن (الإسلام المبني على خمس) هو الإسلام نفسه ليس المبني غير المبني عليه؛ بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها (الإحسان) وأوسطها (الإيمان) ويليه (الإسلام) فكل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم وليس كل مؤمن محسنا ولا كل مسلم مؤمنا كما سيأتي بيانه - إن شاء الله - في سائر الأحاديث كالحديث الذي رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((أسلم تسلم. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت. قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: الهجرة. قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد. قال: وما الجهاد؟ قال: أن تجاهد أو تقاتل الكفار إذا لقيتهم ولا تغلل ولا تجبن. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما - قالها ثلاثا - حجة مبرورة أو عمرة)) (14) ولهذا يذكر هذه المراتب الأربعة فيقول:((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم والمهاجر من هجر السيئات والمجاهد من جاهد نفسه لله)) (15) . وقد ثبت عنه من غير وجه أنه قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) (16) . ومعلوم أن من كان مأمونا على الدماء والأموال؛ كان المسلمون يسلمون من لسانه ويده ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه. وفي حديث عبد الله بن عبيد بن عمير أيضا عن أبيه عن جده أنه ((قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام. قيل: فما الإيمان؟ قال: السماحة والصبر. قيل: فمن أفضل المسلمين إسلاما؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قيل: فمن أفضل المؤمنين إيمانا؟ قال: أحسنهم خلقا. قيل فما أفضل الهجرة؟ قال: من هجر ما حرم الله عليه. قال: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قال: أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد مقل. قال: أي الجهاد أفضل؟ قال: أن تجاهد بمالك ونفسك؛ فيعقر جوادك ويراق دمك. قال أي الساعات أفضل؟ قال: جوف الليل الغابر)) (17) . ومعلوم أن هذا كله مراتب بعضها فوق بعض؛ وإلا فالمهاجر لابد أن يكون مؤمنا وكذلك المجاهد ولهذا قال:((الإيمان: السماحة والصبر)). وقال في الإسلام: ((إطعام الطعام وطيب الكلام)). والأول مستلزم للثاني؛ فإن من كان خلقه السماحة فعل هذا بخلاف الأول؛ فإن الإنسان قد يفعل ذلك تخلقا ولا يكون في خلقه سماحة وصبر. وكذلك قال: (أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده. وقال: أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا. ومعلوم أن هذا يتضمن الأول؛ فمن كان حَسِن الخلق فعل ذلك. قيل للحسن البصري: ما حسن الخلق؟ قال: بذل الندى وكف الأذى وطلاقة الوجه. فكف الأذى جزء من حسن الخلق. وستأتي الأحاديث الصحيحة بأنه جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان كقوله: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (18) . وقوله لوفد عبد القيس: ((آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)) (19) . ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان... وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (20) . فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً بخلاف العكس... فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان؛ صلح الجسد بالإسلام وهو من الإيمان؛ يدل على ذلك أنه قال في حديث جبرائيل: ((هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)) (21) فجعل (الدين) هو الإسلام والإيمان والإحسان. فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة لكن هو درجات ثلاث: (مسلم) ثم (مؤمن) ثم (محسن) كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32]والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة بخلاف الظالم لنفسه. وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب؛ لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن؛ فإنه معرض للوعيد ... وأما (الإحسان) فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإيمان. (والإيمان) أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان والإيمان يدخل فيه الإسلام والمحسنون أخص من المؤمنين والمؤمنون أخص من المسلمين؛ وهذا كما يقال: في (الرسالة والنبوة) فالنبوة داخلة في الرسالة والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا؛ فالأنبياء أعم والنبوة نفسها جزء من الرسالة فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة؛ فإنها لا تتناول الرسالة. والنبي صلى الله عليه وسلم فسر (الإسلام والإيمان) بما أجاب به؛ كما يجاب عن المحدود بالحد إذا قيل ما كذا؟ قيل: كذا وكذا (35) كذلك أيضا مما يتعلق بالإيمان مسألة الإسلام ... والخلاف في مسماه، ...على ثلاثة أقوال: طائفة قالت: الإسلام هو الكلمة، أي الشهادتان، وهذا مروي عن الزهري (22) ، وبعض أهل السنة قالوا: الإسلام هو الكلمة، والإيمان هو العمل، المذهب الثاني: طائفة قالوا الإسلام والإيمان مترادفان، وهذا مروي عن بعض أهل السنة، ويتزعمهم البخاري، وهو أيضا ذهب إليه الخوارج والمعتزلة. المذهب الثالث: أن الإسلام هو العمل والإيمان هو التصديق والإقرار، جعلوا الإسلام هو الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة، واستدلوا بحديث جبريل (23) ، والصواب في المسألة أن الإيمان والإسلام تختلف دلالتهما بحسب الإفراد والاقتران، فإذا أطلق الإسلام وحده دخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وإذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وإذا اجتمعتا، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل، فإن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، ولما سأله عن الإيمان فسره بالأعمال الباطنة. هذا هو الصواب أن الإسلام إذا أطلق وحده دخل فيه الإيمان، والإيمان إذا أطلق وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، أما الأدلة والمناقشات يأتي الكلام عليها إن شاء الله. قلنا إن الناس في مسمى الإسلام لهم أقوال: القول الأول: من يقول: إن الإسلام هو الكلمة والإيمان هو العمل، يقول: مسمى الإسلام هو الكلمة، يعني الشهادتين، وهذا مروي عن الزهري وبعض أهل السنة، قالوا الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج هؤلاء بقول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32]قالوا فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه والمقتصد، هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم. والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه، ولكن وجهة نظر الزهري هي أن من أتى بالشهادتين صار مسلما، يتميز عن اليهود والنصارى، تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين. والزهري لم يرد أن الإسلام الواجب هو الكلمة وحدها؛ فإن الزهري أجل من أن يخضع لذلك، ولهذا فإن أحمد رحمه الله في أحد أجوبته لم يجب بهذا، خوفا من أن يظن أن الإسلام ليس هو إلا الكلمة، وقد رد محمد بن نصر على من قال بهذا القول، فقال من زعم أن الإسلام هو الإقرار، وأن العمل ليس منه فقد خالف الكتاب والسنة، فإن النصوص كلها تدل على أن الأعمال من الإسلام كحديث جبريل، وفيه بني الإسلام على خمس، وذكر الأعمال الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج (36) ويمكن أن نجمل ما سبق في قاعدتين: القاعدة الأولى: لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له. والمقصود هنا الإيمان والإسلام المقبولان عند الله عز وجل. قال أبو طالب المكي: (.. فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول، غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد، كذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه، من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء: 94] وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى [طه: 75] (24). ويقول ابن أبي شيبة: لا يكون الإسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام... (25) .وقال الإمام البغوي في تعليقه على حديث جبريل عليه السلام: جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام (26) ، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين ولذلك قال: ((ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) (27)والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعاً...) (28). إذاً يمكن تلخيص هذه القاعدة بما يلي: إن بين الإسلام والإيمان تلازماً فلا يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر، فلا يصح الإسلام ولا يوجد بدون أصل الإيمان، فإذا انتفى أصل الإيمان بطل الإسلام، كذلك لا يصح ولا يوجد إيمان بدون إسلام (أي عمل الجوارح، وعمل القلب) فلو انتفى العمل لدل ذلك على بطلان الإيمان وفساده. القاعدة الثانية: أن الاسم الواحد ينفي ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به، فلا يجب إذا أثبت أو نفى في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام... كذلك كل ما يكون له مبتدأ وكمال، ينفي تارة باعتبار انتفاء كماله، ويثبت تارة باعتبار ثبوت مبدئه (29) . ذكر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا من دقته - رحمه الله - وسعة بحثه واستقرائه، وقبل أن نطبقها على مسألة الإيمان نذكر مثالاً من الأمثلة التي ذكرها لتتضح القاعدة أكثر. قال: (ولفظ النكاح وغيره في الأمر، يتناول الكامل، وهو العقد والوطء، كما في قوله: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء [النساء: 3] وقوله: حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230] وفي النهي يعم الناقص والكامل، فينهى عن العقد مفرداً، وإن لم يكن وطء، كقوله: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء [النساء: 21]، وهذا لأن الآمر مقصوده تحصيل المصلحة، وتحصيل المصلحة إنما يكون بالدخول كما لو قال: اشتر لي طعاماً، فالمقصود ما يحصل إلا بالشراء والقبض، والناهي مقصوده دفع المفسدة، فيدخل كل جزء منه، لأن وجوده مفسدة، وكذلك النسب والميراث معلق بالكامل منه، والتحريم معلق بأدنى سبب حتى الرضاع) (30) . قال: (وكذلك الإيمان له مبدأ وكمال، وظاهر وباطن، فإذا علقت به الأحكام الدنيوية من الحقوق والحدود كحقن الدم، والمال، والمواريث، والعقوبات الدنيوية، الدنيوية من الحقوق والحدود كحقن الدم، والمال، والمواريث، والعقوبات الدنيوية، علقت بظاهره، لا يمكن غير ذلك، إذ تعليق ذلك بالباطن متعذر، وإن قدر أحياناً، فهو متعسر علماً وقدرة، فلا يعلم ذلك علماً يثبت به في الظاهر، ولا يمكن عقوبة من يعلم ذلك منه في الباطن... وأما مبدؤه فيتعلق به خطاب الأمر والنهي، فإذا قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ[المائدة: 6] ونحو ذلك، فهو أمر في الظاهر لكل من أظهره، وهو خطاب في الباطن لكل من عرف من نفسه أنه مصدق للرسول، وإن كان عاصياً، وإن كان لم يقم بالواجبات الباطنة والظاهرة،... وأما كماله فيتعلق به خطاب الوعد بالجنة، والنصرة والسلامة من النار، فإن هذا الوعد إنما هو لمن فعل المأمور وترك المحظور، ومن فعل بعضاً وترك بعضاً فيثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، فلا يدخل في اسم المؤمن المستحق للحمد والثناء دون الذم والعقاب ومن نفى عنه الرسول الإيمان، فنفي الإيمان في هذا الحكم (31) ، لأنه ذكر ذلك على سبيل الوعيد، إنما يكون بنفي ما يقتضي الثواب ويدفع العقاب، ولهذا ما في الكتاب والسنة من نفي الإيمان عن أصحاب الذنوب، فإنما هو في خطاب الوعيد والذم، لا في خطاب الأمر والنهي، ولا في أحكام الدنيا) (32) . وكلام المروزي.. يتفق مع هذه القاعدة حيث قال: (إن اسم المؤمن قد يطلق على وجهين: اسم بالخروج من ملل الكفر، والدخول في الإسلام، وبه تجب الفرائض.... ويجري عليه الأحكام والحدود. واسم يلزم بكمال الإيمان وهو اسم ثناء وتزكية، يجب به دخول الجنة والفوز من النار.. إلخ كلامه...) المبحث الثاني  :

حالات ورود لفظ الإيمان والإسلام في كلام الله ورسوله

(الحالة الأولى) أن يطلق على الأفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله كقوله عز وجل: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257] وقوله: وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68]وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ[الحديد: 16] وقوله: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [إبراهيم: 11] وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 23] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)) (1) . ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطنا وظاهر في قوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[الأنفال: 2-4] وقوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] وقوله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 15-17] وفسرهم بمن اتصف بذلك كله في قوله عز وجل: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 1-5] وقال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران: 133-136] وفي قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[الأعراف: 156-157] وقال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1-11]وقال الله تعالى: طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النمل: 1-3] وغيرها من الآيات وقد فسر الله تعالى الإيمان بذلك كله في قوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]... وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله في حديث وفد عبد القيس في الصحيحين وغيرهما فقال: ((آمركم بالإيمان بالله وحده قال أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تؤدوا من المغنم الخمس)) (2) وقد جعل صلى الله عليه وسلم صيام رمضان إيمانا واحتسابا من الإيمان وكذا قيام ليلة القدر وكذا أداء الأمانة وكذا الجهاد والحج واتباع الجنائز وغير ذلك وفي الصحيحين: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (3) . وهذه الشعب المذكورة قد جاءت في القرآن والسنة في مواضع متفرقة منها ما هو من قول القلب وعمله ومنها ما هو من قول اللسان ومنها ما هو من عمل الجوارح. ولما كانت الصلاة جامعة لقول القلب وعمله وقول اللسان وعمله وعمل الجوارح سماها الله تعالى إيمانا في قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] يعني صلاتكم كما يعلم من سبب نزول هذه الآية... والآيات والأحاديث في هذا الباب يطول ذكرها وإنما أشرنا إلى طرف منها يدل على ما وراءه وبالله التوفيق......... (الحالة الثانية) أي يطلق الإيمان مقرونا بالإسلام وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل هذا وما في معناه وكما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ[النساء: 57] في غير موضع من كتابه وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الجنازة:((اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان)) (4) وذلك أن الأعمال بالجوارح وإنما يتمكن معها في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير قول القلب وعمله... والحاصل أنه إذا أفرد الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ بل كل منهما على انفراده يشمل الدين كله وإن فرق بين الاسمين كان الفرق بينهما بما في هذا الحديث الجليل والمجموع مع الإحسان هو الدين كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله دينا وبهذا يحصل الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث التي فيها تفسير الإيمان بالإسلام والإسلام بالإيمان وبذلك جمع بينه وبينها أهل العلم.

المبحث الثالث  :
        التلازم بين الإيمان والإسلام

إنه مع القول بالفرق بين الإيمان والإسلام، فإنه لا إسلام لمن لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا إسلام له؛ إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصحُّ إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يُحققُ إيمانه؛ لما بين الباطن والظاهر من ارتباط وتلازم على ما سيأتي بسطه إن شاء الله. والمقصود هنا أن نبين أنه حيث وجد الإيمان الباطن، لزم وجود الإسلام الظاهر الذي هو القول والعمل. قال شيخ الإسلام: (وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب، والإسلام ظاهر كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((الإسْلامُ عَلانِيَةٌ وَالإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (1) . ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله، والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد. وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما، امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة. فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام، وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة؛ فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك) (2) . وقال: (فإذا قرن الإيمان بالإسلام كان مسمى الإسلام خارجا عنه، كما في حديث جبريل، وإن كان لازما له) (3). وقال أيضا: (وقد ذكر الخطابي في شرح البخاري كلاما يقتضي تلازمهما، مع افتراق اسميهما، وذكره البغوي في شرح السنة فقال: قد جعل النبي الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس كذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل الجملة (4) ، هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:((هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) (5) . ونَقل عن أبي طالب المكي قوله: (فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم. فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم، كشيء واحد. كذلك الإيمان والإسلام: أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ[الأنبياء:94] وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىطه:75[. فمن كان ظاهره أعمال الإسلام، ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقا ينقل عن الملة. ومن كان عقده الإيمان بالغيب، ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد) (6) .] وقال أبو طالب المكي أيضا: (ومثل الإيمان في الأعمال، كمثل القلب في الجسم، لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا يكون ذو جسم حي لا قلب له، ولا ذو قلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى منفصلان. ومثلهما أيضا مثل حبة لها ظاهر وباطن وهي واحدة. لا يقال: حبتان لتفاوت صفتهما. فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان، وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام وهو من أعمال القلوب). وقد سبق النقل عن شيخ الإسلام في إثبات أن الإيمان يستلزم الإسلام باتفاق، حيث قال: (فإن الإيمان مستلزم للإسلام باتفاقهم، وليس إذا كان الإسلام داخلا فيه يلزم أن يكون هو إياه، وأما الإسلام فليس معه دليل على أنه يستلزم الإيمان عند الإطلاق... ولو قُدّر أن الإسلام يستلزم الإيمان الواجب فغاية ما يقال: إنهما متلازمان فكل مسلم مؤمن وكل مؤمن مسلم، وهذا صحيح إذا أريد أن كل مسلم يدخل الجنة معه الإيمان الواجب. وهو متفق عليه إذا أريد أن كل مسلم يثاب على عبادته فلا بد أن يكون معه أصل الإيمان). وقال: (فإذا قيل: إن الإسلام والإيمان التام متلازمان لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر كالروح والبدن، فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح وليس أحدهما الآخر. فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حيا إلا مع الروح، بمعنى أنهما متلازمان، لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وإسلام المنافقين كبدن الميت، جسد بلا روح. وما من بدن حي إلا وفيه روح) (7) . ) المبحث الرابع  :

 ثمرة التفريق بين الإسلام والإيمان

إن للقول بالتفريق بين الإيمان والإسلام ثمرات هي: 1- بيان أن الإيمان مراتب كما حددها النبي صلى الله عليه وسلم. 2- وأن الإيمان أفضل من الإسلام كما أن الإحسان أفضل من الإيمان. 3- وأن الجنة معلقة بالإيمان والإسلام. 4- وأن الإيمان أعم من الإسلام من جهة الشمول فكل مؤمن مسلم وليس العكس إلا إذا أتى بالإسلام الواجب فحينئذ يعتبر مسلما مؤمنا وهذا معنى قول السلف: (لا إسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام) والإسلام الواجب يدخل فيه أصل الإيمان على أقل تقدير وهو المعبر عنه بالإسلام الحقيقي ... وأما من جهة الإفراد فلا يطلق إلا على من أتى بالإيمان الواجب وبهذا الاعتبار ... أن الإسلام أعم وأشمل فيشمل المسلم الحقيقي والمنافق والفاسق الملي بإطلاق. 5- ومن ثمراته أيضا: تقرير الزيادة والنقصان في الإيمان بحسب الأعمال فالمرء يرتقي إلى مرتبة الإيمان والإحسان بأعماله الصالحة وطاعة الله تعالى بامتثال أوامره وترك نواهيه. ولهذا فرت المرجئة من هذا الأصل الأصيل لأنه يأتي على بنيانهم من القواعد! 6- ومن ثمراته أيضا: التفريق بين الإسلام الحكمي من أنه يطلق على كل من أظهر الإسلام صادقا أو كاذبا ولكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان أو الإسلام الحقيقي الذي يوافق الإيمان الواجب. 7 – وكذلك من ثمراته: أنه يحكم على المرء بالإسلام الحكمي بمجرد إقراره لا يعطى اسم المؤمن إلا لمن جمع بين القول والعمل. وكذا اسم الإيمان ينزع من مرتكب الكبيرة ولكن لا ينزع منه اسم الإسلام على قول من يرى أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان إلى الإسلام.

🌻🌻🌻🌻   تمهيد  🌻🌻🌻🌻

في هذا المبحث سنبين مراتب الإيمان وطبقات الناس فيه، وماهو الحد الأدنى الذي من أخل به ذهب إيمانه، وما هو الحد الأعلى الذي يبلغ بصاحبه درجة الصديقين. اسم الإيمان وحقيقته: قال الإمام الخطابي (إن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أدنى وأعلى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جميع أجزائها...) (1) . إذاً حقيقة الإيمان واستكماله لا تكون إلا بأداء الفرائض واجتناب المحارم، وأما اسم الإيمان وحكمه فيشمل كل من دخل الإيمان وإن لم يستكمله وهكذا (الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضل فيها بعضهم بعضاً وقد شملهم فيها اسم واحد، من ذلك أنك تجد القوم صفوفاً بين مستفتح للصلاة، وراكع وساجد، وقائم وجالس، فكلهم يلزمه اسم المصلي، فيقال لهم مصلون، وهم مع هذا فيها متفاضلون وكذلك صناعات الناس، لو أن قوماً ابتنوا حائطاً وكان بعضهم في تأسيسه، وآخر قد نصفه، وثالث قد قارب الفراغ منه، قيل لهم جميعاً بناة وهم متباينون في بنائهم وكذلك لو أن قوماً أمروا بدخول دار، فدخلها أحدهم فلما تعتب الباب أقام مكانه، وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها، قيل لهم جميعاً داخلون وبعضهم فيها أكثر مدخلاً من بعض فكذلك المذهب في الإيمان.. هو درجات ومنازل وإن سمي أهله اسماً واحداً) (2) . أيضاً مما ينبغي تأكيده في هذا المجال أن ما ورد من نفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر هو داخل في هذا المعنى ... أي أن المنفي ليس اسم الإيمان والدخول فيه إنما المنفي هو حقيقة الإيمان وكماله، يقول الإمام أبو عبيد: (فإن قال قائل كيف يجوز أن يقال ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً وإنما وقع معناه هاهنا على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكملوا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال ما هو بولده، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك وإنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة البر، وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أحكامها وأسماؤها فكذلك هذه الذنوب التي ينفي بها الإيمان إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك ولا يقال لهم مؤمنون وبه الحكم عليهم) (3) ثم ذكر شواهد شرعية على ذلك. يتبين لنا من النقل السابق أن هناك أمرين أحدهما عام والآخر خاص، فأما العام فهو استحقاق اسم الإيمان لكل من دخل الإيمان، سواء استكمله أم كان معه الحد الأدنى منه، وأما الخاص، فهو إطلاق الإيمان على معنى الكمال لمن عمل حقائق الإيمان. فالمؤمنون متفاوتون في مراتب إيمانهم فمنهم من معه أصل الإيمان (الحد الأدنى منه) دون حقيقته الواجبة، ومنهم من بلغ درجات الكمال الواجب أو المستحب. المبحث الأول : أصل الإيمان، أو الإيمان المجمل، أو مطلق الإيمان

أصل الإيمان: وهي الحد الأدنى من الإيمان ولا يوجد الإيمان بدونه وبه ينجو صاحبه من الكفران، ويدخل في زمرة الإيمان، وبه خلاصه من الخلود في النار إن مات عليه. ويطلق عليه أيضا الإيمان المجمل ومطلق الإيمان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك) (1). ويسمى بمطلق الإيمان لأن صاحبه داخل في مسمى الإيمان لأنه قد ثبت له أصل الإيمان فيعد من أهله ولكن لا يعطى له اسم الإيمان مطلقا لأن الإيمان إذا أطلق يراد به جميع الشرائع الواجبة والمستحبة واسم المؤمن إذا أطلق فيراد به من أتى بالإيمان الواجب ولكنه يعطى له مطلق الاسم، لصحة نسبة صاحبه إليه، ولو لم يأت بكماله الواجب؛ فهو مؤمن ناقص الإيمان بسبب تقصيره وتفريطه في الواجبات وركوبه المحارم، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بتفريطه وارتكابه الكبائر... وهذه المرتبة أعني أصل الإيمان يقابلها الكفر فلا يقبل النقصان فإن المخل بها لا تثبت له قدم الإسلام فكل من لم يأت بأصل الإيمان فهو كافر، ولما كان أصل الإيمان يقابل الكفر والكفر يضاده فإن كل ذنب مكفر من قول أو فعل أو اعتقاد يهدم أصل الإيمان ويشمل أصل الإيمان على أقوال ... والاحتراز عن كل ما تخل به من المكفرات أو ما يسمى بنواقض الإيمان. ومن أتى بأصل الإيمان فإنه يثبت له في الدنيا جميع الأحكام الشرعية المترتبة على الإيمان وإن مات عليه فإنه ناج من الخلود في النار، ودخل الجنة لا محالة، عاجلا آم آجلا وإن ارتكب المعاصي وقصر وفرط فهو في مشيئة الله إن شاء عفى عنه؛ فدخل الجنة ابتداء لشرف ما قام بقلبه من توحيد وإخلاص وأدركته شفاعة الشافعين، وإن شاء عذبه ثم دخل الجنة بعد ذلك، فلا شك أن مآله إلى الجنة والحمد لله. لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((من لقي الله لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة)) (2) . وكل من نفى عنه الشارع اسم الإيمان من أهل المعاصي ... فإنهم من أهل هذه المرتبة فإن نفي الشارع يدل على تقصيره في الإيمان الواجب، فإن الشارع كما ذكرنا لا ينفي اسم الإيمان إلا لترك واجب أو فعل محرم ينافي الإيمان الواجب، ولا يخرج المرء من هذه المرتبة إلا بالكفر والخروج عن الملة والعياذ بالله. قال الإمام أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي رحمه الله: (الكفر ضد أصل الإيمان، لأن للإيمان أصلاً وفروعاً فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر) (3) . والحاصل: أن للإيمان أصل، لا يتم ولا يصح الإسلام والإيمان إلا به إجماعا (4) . وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن معلقا على كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله: (الشيخ رحمه الله يوضح ذلك أن أصل الإسلام وقاعدته شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل لا الإبداع فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين.. ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة سواه، كائنا من كان، هذه هي الحكمة التي خلقت لها الجن والإنس وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه لا من الأولين ولا من الآخرين) المبحث الثاني :

الإيمان الواجب، أو الإيمان المفصل، أو الإيمان المطلق، أو حقيقة الإيمان

الإيمان الواجب (الكمال الواجب): وهو ما زاد على أصل الإيمان من فعل الواجبات وترك المحرمات، وهذا الإيمان هو ما أوجبه الله تعالى على عباده وهو فعل جميع الطاعات واجتناب جميع المحرمات. وقد رتب الله تعالى على الإيمان الواجب الثواب والوعد بالجنة والعتق من النار، والوعيد لمن قصر فيه بترك واجب أو فعل محرم. وفي هذا تقع الزيادة والنقصان والفوز والخسران فلا يعطى لأحد اسم المؤمن المطلق إلا لمن كمل إيمانه بفعل جميع الطاعات وترك جميع المحرمات فإذا قصر في الواجبات أو ارتكب الموبقات فلا يستحق اسم المؤمن على الإطلاق بل يعتبر من أهل الوعيد وإيمانه ناقص. ولهذا قال الإمام أبو عمرو ابن الصلاح الشهرزوري رحمه الله: (ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد) (1) . والمقصود بإطلاق الاسم على ناقص الإيمان بقيد قول أهل السنة، المعروف (مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته). وعلق الله دخول الجنة بالإيمان الواجب فأهله هم المستحقون لدخوله ابتداء بلا عذاب قال الإمام المروزي رحمه الله: (والمؤمنون الذين زكاهم وأثنى عليهم، ووعدهم بالجنة هم الذين أكملوا إيمانهم باجتناب كل المعاصي، واجتناب الكبائر) (2). وقال الحافظ ابن منده رحمه الله: (ولا يكون مستكملا له حتى يأتي بفرعه، وفرعه المفترض عليه، أو الفرائض واجتناب المحارم) (3) . وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: (والمرتبة الثانية من مراتب الدين: مرتبة أهل الإيمان المطلق، الذين كمل إسلامهم وإيمانهم بإتيانهم ما وجب عليهم وتركهم ما حرم الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب فهذه هي المرتبة الثانية، التي وعد الله أهلها بدخول الجنة والنجاة من النار لقوله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [ الحديد: 21] فهؤلاء اجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة ففعلوا ما أوجبه الله عليهم وتركوا ما حرمه الله عليهم وهم السعداء أهل الجنة) (4) . والناس في الإيمان الواجب على قسمين: القسم الأول: الذين أتوا بالإيمان الواجب بتمامه ولم ينقصوا منه ولم يزيدوا عليه إضافة إلى الإتيان بأصل الإيمان لأنه الأساس للإيمان الواجب والمستحب ولذا سمي بأصل الإيمان فهو أساس البناء، فهؤلاء هم المؤمنون حقا، المستحقون لوعد الله السالمون من وعيده والفائزون بدخول الجنة ابتداء بلا عذاب بفضل الله وكرمه، وهؤلاء هم المقتصدون كما قال تعالى: وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة من أتى بالإيمان الواجب بحيث أدى ما عليه من الواجبات دون الإتيان بالمستحبات كما في حديث النجدي الذي قال لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما يجب عليه: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أفلح إن صدق)) (5) وكذا قوله للأعرابي لما قال: (والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا، ولا أنقص منه):((من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا)) (6) . القسم الثاني: الذين زادوا على أصل الإيمان ودخلوا في الإيمان الواجب بفعل ما يجب وترك ما يحرم عليهم، ولكنهم لم يكملوه بل قصروا فيه إما بترك واجب أو بفعل محرم فهؤلاء يشملهم الوعيد وهم ممن قال الله فيهم فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ كأصحاب أصل الإيمان، وهم الذين يطلق عليهم أصحاب الكبائر أو عصاة الموحدين فهؤلاء في مشيئة الله الذين إن ماتوا بلا توبة إن شاء عفى الله عنهم وأدخلهم الجنة ابتداء وإن شاء عذبهم على ذنوبهم ثم يدخلهم الجنة على ما عندهم من إيمان وعمل صالح وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وهم المرجون لأمر الله والدليل على أنهم في المشيئة قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ التوبة: 106] وقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [ النساء: 48] وقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث المبايعة:((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه..)) (7) . بقي أن نعرف حكم مرتكب الصغائر هل ينقص من مرتبة الإيمان الواجب أم لا؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب على هذا التساؤل: (والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة، وهي مكفرة عنه بفعله الحسنات، واجتناب الكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فمن أتى بالإيمان الواجب ولكنه خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقص بذلك درجة عمن لم يأت بذلك) المبحث الثالث:

             الإيمان المستحب،
      أو الإيمان الكامل بالمستحبات

الإيمان المستحب: وهو إيمان السابق بالخيرات وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [ فاطر: 32]الزائد على الإيمان الواجب بفعل المندوبات والمستحبات وترك المكروهات والمشتبهات والسابق إلى فعل الخيرات والاجتهاد في الطاعات والقربات والترقي في مقامات الإحسان فهو دائم المراقبة لله والمشاهدة لآلائه وعظمته وجلاله سبحانه وتعالى يعبد الله كأنما يرى الله سبحانه وتعالى خوفا وتعظيما ومهابة وتوكلا عليه وإخلاصا له مع كمال الحب والذل والخضوع والإنابة والمسكنة. وهذا إيمان الصديقين والمقربين الأبرار فازوا بالمراتب العلية والمقامات السامية برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة. ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم) (1) . وأصحاب هذه المرتبة يستحقون دخول الجنة ابتداء في أعلى الدرجات بفضل الله وتوفيقه والنقص في هذه المرتبة لا يترتب عليه فسق أو وعيد بعقاب أو نفي لكمال الإيمان الواجب ولكن صاحبه يفوته علو الدرجة وسمو المنزلة عند الله تعالى كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهو مركب – أي الإيمان – من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصا يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة) (2) . وفي ختام التعريف بالمراتب الثلاث تجدر الإشارة إلى تنبيهين مهمين: التنبيه الأول: كان الأولى لشيخ الإسلام أن يقول في تعريف أصل الإيمان (وهو مركب بأصل لا يوجد بدونه) بدل قوله: (ومن أصل لا يتم بدونه) لأن الإيمان لا يتم بأصل الإيمان وليس هذا مقصود شيخ الإسلام رحمه الله، لأنه بين في أكثر من موضع أن الإيمان التام هو فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات وذكر أيضا أن الإيمان إذا أطلق والمقصود به الإيمان الكامل، هو جميع ما أمر الله به من الواجبات والمستحبات وما نهى عنه من المحرمات والمكروهات فقال رحمه الله: (وهو جميع ما أمر الله به، فهذا هو الإيمان الكامل التام) (3) فالإيمان الكامل التام لا يتم إلا بمجموع مراتبه الثلاث.. المبحث الرابع: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان

أما المؤمن الإيمان المطلق الذي لا يتقيَّد بمعصية ولا بفسوق وبنحو ذلك، فهو الذي أتى بما يستطيعه من الواجبات مع تركه لجميع المحرمات، فهذا هو الذي يطلق عليه اسم الإيمان من غير تقييد، فهذا هو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق؛ والثاني هو الذي لا يصر صاحبه على ذنب، والأول هو المصر على بعض الذنوب. وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة في الفرق بين الإسلام والإيمان، وهو الفرق بين مطلق الإيمان. والإيمان المطلق فمطلق الإيمان هو وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به؛ فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصرا على ذنب أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه. (1) فالخلاصة أن مطلق الإيمان يعني أصل الإيمان والإيمان المطلق كمال الإيمان، فالعاصي يعطى مطلق الإيمان ولا يعطى الإيمان المطلق، العاصي يقال مؤمن بتقييد ناقص الإيمان، ولا يعطى الإيمان المطلق فيقال مؤمن بإطلاق فمطلق الإيمان أصل الإيمان، والإيمان المطلق كمال الإيمان. المبحث الخامس :

دخول الأعمال في هذه المراتب الثلاثة

فكما سبق إجماع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، وهذا يشتمل مراتب الإيمان الثلاثة وسبق أيضا أن الإيمان إذا أطلق فالمراد به الدين كله وهو يشمل على شعب وهذه الشعب جامعة لكل أمور الإيمان الواجبات والمنهيات فصار الإيمان بهذه الشعب مشتملا على جميع الطاعات فرضها ونفلها، مما يجب على القلب واللسان والجوارح، على ترك المحظورات المحرمة منها والمكروهة ولكن هذه الشعب تتفاوت، فمنها ما يدخل في أصل الإيمان فلا يصح الإيمان إلا به ومنها ما يدخل في الإيمان الواجب ومنها ما يدخل في الإيمان المستحب ... أما أصل الإيمان فإنه يشتمل على شعب ولا يصح إلا باكتمالها وهي: على القلب: معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالا والتصديق والانقياد له وتواطؤ القلب مع اللسان في الإقرار بوحدانية الله والخضوع والمحبة مع الرضا والتسليم والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لطاعته وعدم معاندته به. وعلى اللسان: الإقرار بالشهادتين وما يتوقف على اللسان من الأعمال الداخلة في أصل الإيمان كأذكار الصلاة مثلا. وعلى الجوارح: ما يكفر تاركها كالصلاة أو مانعها كالزكاة بإجماع الصحابة وما سواهما محل خلاف بين العلماء. إضافة إلى البراءة من الشرك وأهله والتجرد من المكفرات وكل ما يناقض الإيمان من قول أو فعل أو اعتقاد مكفر. وضابط دخول الأعمال في أصل الإيمان: (أن كل طاعة يكفر تاركها ففعلها من أصل الإيمان كالتصديق والإقرار والانقياد القلبي والصلاة، وكل محرم يكفر فاعله فتركه من أصل الإيمان؛ كالاستهزاء بالدين والدعاء والاستغاثة بغير الله والحكم بغير شرع الله والتحاكم إلى الطاغوت وغيره) ... وأن ضد أصل الإيمان الكفر، فلا يجتمع أصل الإيمان، مع ما يناقضه من الأمور المكفرة. وأما الإيمان الواجب: فكل الشعب الواجبة داخلة فيه إضافة إلى شعب أصل الإيمان وضابط ما يدخل في الإيمان الواجب من الأعمال سواء كان فعلا أو تركا: أن كل عمل ورد في تركه وعيد ولم يكفر تاركه ففعله من الإيمان الواجب. وكل عمل ورد في فعله وعيد ولم يبلغ حد الكفر فتركه من الإيمان الواجب (كترك الفواحش والموبقات من الزنا والربا والسرقة وشرب الخمر والكذب والغيبة والنميمة والقذف وأكل أموال الناس بالباطل وإيذاء الجار.. وغير ذلك). ومما يدخل في حكم الواجب، ما يتعين تعلمه من العلم بالواجبات والنواهي التي تدخل في أصل الإيمان والإيمان الواجب وكذا وجوب تعلم كل واجب آن أوان الشروع فيه؛ كقاصد الحج عند حلول موسمه، والنكاح عند إرادته وهكذا جميع الواجبات يجب على المرء العلم بشروطها وأركانها ومفسداتها قبل الشروع فيها، وهذا يدخل ضمن الفرض العيني على عوام المسلمين لا ينبغي التفريط فيه فإن التقصير في تعلم ذلك قد يوجب الكفر والعياذ بالله إذا كان يسبب جهلا بأصل الإيمان ونواقضه، ومفسقا إذا كان بسبب جهلا بالمحرمات والمنهيات، وفسادا لصحة العبادات إذا كان جهلا بنواقضها ومفسداتها. وأما الإيمان المستحب: فيشمل على جميع شعب الإيمان المستحبة من نوافل العبادات والطاعات مما لم يوجبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فكل ما سوى الواجبات فهو من الإيمان المستحب. وضابط دخول الأعمال فعلا كانت أو تركا – أن كل عمل رغب فيه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورتب عليه الثواب الجزيل ولم يرد وعد في تركه بعقوبة فهو من الإيمان المستحب. وكذلك كل فعل نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نهيا لم يصل إلى حد التحريم كالمكروهات فتركها من الإيمان المستحب ودليل على ورع تاركه وشدة التزامه بأوامر الشرع وعلو إيمانه. إضافة إلى أن ترك الأمور المشتبهة التي يشتبه فيها الحلال والحرام من الإيمان المستحب، فالذين يريدون المراتب العلية وبلوغ مرتبة الكمال المستحب يبتعدون عن كل شيء يشم منه رائحة الحرام من قريب أو بعيد ويدعون ما لا بأس به خشية ما فيه بأس ورعا في نفوسهم وزهدا في الدنيا وملذاتها وشهواتها، فهؤلاء هم أصحاب النفس المطمئنة الذين اطمأنت نفوسهم لما عند الله وصرفوا عينهم عن متاع الدنيا فقد شغلتهم الآخرة عن الدنيا، فلا هم لهم إلا نيل رضا الله وجزيل ثوابه وهم مع ذلك يتركون ما ينافي الكمال المستحب من أمور الاعتقاد والسلوك كطلب التداوي لما فيه من منافاة التوكل وكلية الاعتماد على الله والسؤال عند الحاجة وعدم إظهار الشكوى والضجر لما فيه من الإخلال بالصبر الجميل، ومن نظر إلى سير هؤلاء الصالحين وعباد الله الصادقين رأى العجب العجاب من أخبار القوم نسأل الله أن يجمعنا بهم وأن يحشرنا في زمرتهم وأن يوفقنا للاقتداء بهم إنه ولي ذلك والقادر على كل شيء.. المبحث السادس: حكم التقصير في كل مرتبة من المراتب الثلاث

اعلم أن التقصير في هذه المراتب يكون بترك واجب أو فعل محرم وهذا تعريف الذنوب على الإطلاق مع وجود تفاوت بين مراتب الذنوب فمن الذنوب ما هو كفر مخرج من الملة ينافي أصل الإيمان ومنها ما هو كفر أصغر وكبيرة وفسق ينافي كمال الواجب ويتفاوت حكم التقصير في كل مرتبة من مراتب الإيمان. فمن قصر في أصل الإيمان بترك واجب من الواجبات الداخلة في أصل الإيمان كترك الإقرار بالشهادتين وترك الصلاة وانتفاء التصديق وغيرهما مما تدخل في واجبات أصل الإيمان سواء كانت من أعمال القلب أو اللسان أو الجوارح. ... وأن كل أمر وردت الشريعة بكفر تاركه فهو من واجبات أصل الإيمان. هذا بالنسبة لترك واجب من واجبات أصل الإيمان. وكذلك فإن أصل الإيمان ينهدم بفعل محرم يضاده وهو: كل أمر نهى عنه الشارع وكفر فاعله ... وأن كل محرم كفر الشارع فاعله فتركه من أصل الإيمان وفعله ينافي أصل الإيمان ويخرج صاحبه من الملة، ومن هذه الأمور: سب الله والرسول، والاستهزاء بالدين، وبغض الدين والرسول صلى الله عليه وسلم، ومحاربة الإسلام، ودعاء غير الله والذبح له والتحاكم إلى الطاغوت وكل أمر مكفر حكم الشرع بكفر فاعله، وقائله ومعتقده. وأما بالنسبة للإيمان الواجب: فإن التقصير فيه يكون بترك واجب من الواجبات أو انتهاك محرم من المحرمات مما لا تصل إلى حد الكفر كما هو الحال في أصل الإيمان. فمن ترك واجبا أو فعل محرما استحق الوعيد وصار من فساق الملة ولا يعد من أصحاب الإيمان الكامل الواجب لأن إيمانه نقص لما ارتكبه من تقصير في واجب أو انتهاك في محرم من كبائر الذنوب فلا يعطى له اسم الإيمان على الإطلاق ... وأن اسم المؤمن المطلق لا يعطى إلا لمن أدى جميع الواجبات وترك جميع المحرمات بل يعطى مطلق الاسم فقال مؤمن ناقص الإيمان مع بيان صفة إيمانه بأنه ناقص أو يعطى له اسم الإيمان على التقييد فيقال مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. كما هو صريح النصوص الشرعية مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..)) (1)أي وهو كامل الإيمان وقد روى عن بعض السلف أنهم قالوا يخرج من الإيمان إلى الإسلام وهذا القول مع أن فيه سلب اسم الإيمان بالكلية فإنه ليس المشهور الوارد عن السلف بل المشهور إبقاء اسم الإيمان عليه مع التقييد أي سلب الاسم المطلق عنه لا مطلق الاسم وهو المعروف بالفاسق الملي لبقائه في دائرة الملة الإسلامية تميزا ولو وجه هذا القول في حق مرتكب الكفر والشرك والنفاق الأصغر لكان متوجها لإطلاق اسم الكفر عليه من قبل الشرع مع أن المقصود به غير المخرج من الملة كقول النبي صلى الله عليه وسلم ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (2) وقوله صلى الله عليه وسلم ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) (3)وغيرها من النصوص الواردة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. فلو قيل في مثل هذه الذنوب: إن صاحبها يخرج من الإيمان إلى الإسلام، لكان له وجه من الدليل. لأن الأصغر من الكفر والشرك والنفاق أكبر من الكبائر، لما فيه من منافاة كمال التوحيد الواجب والعياذ بالله والله تعالى أعلم. ... وأن صاحب الكبيرة من أهل الوعيد مع كونه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ومآله إلى الجنة لا محالة بما معه من الإيمان والتوحيد. وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبائر خلافا للوعيدية (الخوارج والمعتزلة) فإن أهل السنة والجماعة لا يكفرون أحدا بذنب غير مكفر إلا إذا استحل ذلك الذنب فعندئذ يحكم بكفره بسبب استحلاله لا بسبب ذنبه وسيأتي إيضاح مسألة الاستحلال كفر محض إذا أضيف إلى أي ذنب مهما كان درجته يصير كفرا.. وهذا من الأصول المقررة في معتقد أهل السنة والجماعة وقد عبر عنه الإمام الطحاوي بقوله (ولا نكفر مسلما بذنب إلا إذا استحله) (4) وقال الحافظ الحكمي رحمه الله في منظومته الشهيرة (سلم الوصول إلى علم الأصول) (5) . ولا نكفر بالمعاصي مؤمنا إلا مع استحلال له لما جنى وأما الإيمان المستحب: فلا يعتبر التقصير فيه إثما، فإن الله تعالى لم يوجبه على عباده ولكن رغبهم فيه ليصلوا إلى أعلى درجات الكمال في الإيمان ويفوزوا بالدرجات العلى وينالوا الرحمة والرضوان والفردوس والجنان ويحوزوا ولاية الرحمن فقد ثبت في الحديث القدسي قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)) (6) .. (7) الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن

وهي أصل آخر إليه يرجع الاختلاف في هذه المسألة، أعني مسألة الإيمان. فإن من لم يفرق بين الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان لم يتصور اجتماع الثواب والعقاب، والطاعة والمعصية، والحسنة والسيئة، والسنة والبدعة في الشخص الواحد. وفي هذا يقول الشيخ ابن تيمية في (العقيدة الواسطية) عن أهل السنة والجماعة: (ولا يسلبون الفاسق الملِّي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى: وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنَا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مَّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كاَنَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مَّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [النساء: 92]. وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[الأنفال: 2]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)) (1) . ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرة. فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يُسلب مطلق الاسم) اهـ. فإن الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، الذي تناول فعل المأمور واجتناب المحذور والمحظور. أما مطلق الإيمان، فهذا يشمل الإيمان الكامل، والإيمان الناقص الذي صاحَبَه ذنبٌ كَبُرَ أو صَغُر دون الكفر أو الشرك النافي لأصل الإيمان، فهو الحد الأدنى من الإيمان، وهو القدر الذي يخلص به من الكفر. فمطلق الإيمان، هو ما بقى فيه أصل الإيمان، وثبت لصاحبه اسم الإيمان، وصح نسبة الإيمان إليه ولو لم يكمله. (30) وإن ظاهر العبد – عند أهل السنة والجماعة – هو الوجه الآخر لقلبه وباطنه، وأنه انعكاس مباشر له لا يتخلف عنه ولا يغايره، وإذا كان الباطن صالحاً كان الظاهر كذلك، وإذا كان الباطن فاسداً كان الظاهر كذلك فاسداً بحسبه؛ لأن الإيمان أصله في القلب، وهو: قول القلب من المعرفة والعلم والتصديق. عمل القلب من الإذعان والانقياد والاستسلام. ولكن من لوازم هذا الإيمان – إذا تحقق في القلب – تحقيقها في الظاهر، فالظاهر لا يتخلف عن الباطن ولا يضاده؛ لأنه ترجمان الباطن، ومرتبط به ارتباطاً وثيقاً. فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيماً إلا باستقامة الباطن، وكذلك العكس. والإيمان المطلوب شرعاً هو الإيمان الظاهر والباطن، وتلازم عمل القلب بعمل الجوارح؛ لأنه لا يصح إيمان العبد بواحدة دون الأخرى؛ فمن زعم وجود العمل في قلبه دون جوارحه؛ لا يثبت له اسم الإيمان؛ لأن الأعمال والأقوال الظاهرة من لوازم الإيمان التي لا تنفك عنه، قال الله تبارك وتعالى:لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22]. وقال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ[المائدة: 81]. وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[الأنفال: 2-4]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه)) (2). وقال صلى الله عليه وسلم:((ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)) (3) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح هذا الحديث: (فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد؛ فإذا كان الجسد غير صالح، دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح؛ فعلم أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمناً، حتى أن المكره إذا كان في إظهار الإيمان؛ فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه؛ كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك إلا بقوله، ولا بفعله قط؛ فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب؛ فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه) (4) . وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في شرحه لهذا الحديث أيضاً: (إن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه. فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب. ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، مبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك؛ فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم... فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئاً من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهية معصيته... وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده؛ فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب... ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله؛ فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهراً وباطناً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح الجوارح؛ فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله، وإرادة الله ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله) (5) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب، فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي التصديق لما في القلب، ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح؛ كما قال أبو هريرة – رضي الله عنه – إن القلب ملك، والأعضاء جنوده؛ فإن طاب الملك، طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده) (6) . وقال أيضاً: (فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء إنه إذا أقر بالواجب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان، ... وأن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع؛ سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزء من الإيمان) (7) . وقال في موضع آخر: (وهنا أصول تنازع الناس فيها: منها أن القلب هل يقوم به تصديق، أو تكذيب، ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس؛ أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه، ولم يتكلم قط بالإسلام، ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف؛ فهذا لا يكون مؤمناً في الباطن، وإنما هو كافر) (8) . وقال كذلك: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها؛ مثل أن يؤدي الأمانة، أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه؛ من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم) (9) . وقال - أيضاً- رحمه الله: (إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة؛ كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان؛ فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً، وجود هذا كاملاً؛ كما يلزم من نقص هذا، نقص هذا؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع) (10) . وقال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله: (وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد. وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه. وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله. وإذا زال تصديق القلب، لم ينفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة. وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق؛ فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة؛ فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده؛ كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه، واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول؛ بل ويرون به سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به. وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب؛ فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولاسيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم ... فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد؛ أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق ... وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبيينه؛ بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه، والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى؛ فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء؛ كما أن اعتقاد التصديق، وإن سمي تصديقاً؛ فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته) (11) . وقال العلامة المحقق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: (ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن؛ فإن كان الظاهر منخرماً؛ حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً؛ حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات؛ بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً، والأدلة على صحته كثيرة جداً، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل، وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق، إلى غير ذلك من الأمور؛ بل هو كلية التشريع، وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة) (12) . (31) ويتحقق الالتزام الباطن بقبول الشريعة، والرضى بها، والتسليم بأحكامها مع تحقيق الالتزام بالعمل الظاهر، الذي هو أيضاً شرط في أصل الدين من حيث الجملة. ومن هنا يفترق حكم المؤمن عن المنافق في أحكام الآخرة، من جهة النظر إلى عدم تحقيق الالتزام الباطن بالنسبة للمنافق، ولو كان قد حقق الالتزام الظاهر. كما أنه يتفق حكم المسلم والمنافق في أحكام الدنيا، من جهة النظر إلى تحقيق الالتزام الظاهر بالنسبة للمنافق أيضاً، مع أنه لم يحقق الالتزام الباطن. فلابد في أحكام الآخرة من تحقيق الالتزام الباطن والظاهر. وأما أحكام الدنيا فيكفي فيها تحقيق الالتزام الظاهر، لأنه لا سلطان لأحد غير الله على البواطن. وكلامنا هنا في حقيقة أصل الدين هو فيما يتعلق بالإيمان المنجي في أحكام الآخرة، لا مجرد الإسلام الحكمي في الدنيا، وعلى هذا فلابد من تحقيق الالتزام بالشريعة باطناً وظاهراً. 1- الالتزام الباطن: وهو الفارق بين المؤمن والمنافق ... فإن المؤمن مع التزامه الظاهر بالشرع ملتزم به باطناً أيضاً. أما المنافق فإنه ولو التزم في الظاهر بالشريعة لكنه في الباطن والحقيقة غير ملتزم بها. ولهذا كان معظم سياق الآيات الواردة في بيان اشتراط هذا الالتزام فيما يختص بالمنافقين، أو أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم ملتزمون بحكم الله، مع أنهم في الحقيقة على غير ذلك. من ذلك قول الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. ففي هذه الآية نفي للإيمان عمن لم يتحاكم إلى شرع الله، فيقبله ويرضى به، بحيث لا يجد في نفسه اعتراضاً أو حرجاً من ذلك، بل يسلم له تسليماً. يقول الإمام ابن القيم: الرضى بالقضاء الديني الشرعي واجب. وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان. فيجب على العبد أن يكون راضياً به، بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض، قال الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً وهذا حقيقة الرضى بحكمه (13) . ويقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 60]. وهذه الآية كالتي قبلها، فيها نفي الإيمان عمن يريد التحاكم إلى غير شريعة الله، وأن ادعاءهم الإيمان مع تحاكمهم إلى غير الشريعة زعم باطل وادعاء متناقض، إذ كيف يتحاكمون إلى الطاغوت وهو كل ما عدا شرع الله، ثم يزعمون مع ذلك أنهم مؤمنون بشرع الله. يقول الإمام ابن كثير: هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد. وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا. (14) . ومما جاء أيضاً في بيان حقيقة المنافقين قول الله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 47-51]. وهذه الآيات أيضاً دعوى من المنافقين أنهم مؤمنون، مع أنهم إذا دعوا إلى حكم الله أعرضوا عنه، فأي إيمان لمن لم يقبل حكم الله ويسلم به. والآيات لا تدل على أن إعراضهم عن حكم الله كان معلناً ظاهراً لكل أحد، وإلا كانوا كافرين كفراً ظاهراً، كما أنهم كافرون كفراً باطناً. لكنهم قد يستخفون بذلك، مع إظهارهم قبول حكم الله، لئلا يطبق عليهم حكم المرتدين عن دين الله. لأن المؤمن لا يمكن أن يرضى بحكم غير حكم الله على الحقيقة، ولو حصل منه مخالفة له في الظاهر، لشهوة أو نحوها. ولهذا قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36]. فالرضى بدين الله والتحاكم إليه شرط في تحقيق أصل الدين الذي لا نجاة بدونه. وهذا الرضى لا يكفي فيه مجرد التصديق، بل لابد مع التصديق من الانقياد والتسليم. بل قد يكون الكافر مصدقاً بالرسالة ولا يحكم بإيمانه حتى يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. بل الكافر المعاند لابد أن تقوم عليه الحجة بصدق الرسالة ويعلم ذلك، كما كان أبو طالب مصدقاً برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يقول: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لكن كان كافراً لعدم التزامه وتسليمه بما علم أنه حق وصدق. (15) ومن زعم أن الإيمان هو مجرد التصديق فلابد أن يتناقض في مثل حال أبي طالب، ممن عرف الحق وأيقن به. وإن زعم الفرق بين التصديق بالشيء والعلم بأنه حق تناقض أيضاً، لأن هذا مما لا يمكن تصوره عند جميع الخلائق. (16) وقد صدق كثيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا بذلك وأقروا، ومع ذلك لم يحكم بإسلامهم، لعدم رضاهم بالشريعة وانقيادهم لها واتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم. من ذلك... ما ورد من قصة أبي حارثة، وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نصارى نجران. قال ابن القيم عنه: (وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والى جنبه أخ له يقال: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة بل أنت تعست، فقال ولم يا أخي؟ فقال والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك). قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فقه هذه القصة: (وفيها أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته، فإذا تمسك بدينه بعد هذه الإقرار لا يكون ردة منه ونظير هذا قول الحبرين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل فلما أجابهما قالا نشهد أنك نبي قال: (فما يمنعكما من اتباعي؟) قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود، ولم يلزمهما بذلك الإسلام، ونظير ذلك شهادة عمه أبي طالب بأنه صادق، وأن دينه من خير أديان البرية ديناً، ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام. ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط. بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ظاهراً وباطناً) (17). ويقول الإمام ابن حجر في فوائد قصة قدوم وفد نجران: (وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام) (18) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان حقيقة الإيمان، وأنه لا يكفي فيه مجرد التصديق، بل لابد من الالتزام بشرع الله والتحاكم إليه: (لفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين: أحدهما: الإخبار. وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار. والثاني: إنشاء الالتزام. كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]. فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول، وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر لا يقال فيه آمن له، بخلال الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمناً للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين) (19) . 2- الالتزام الظاهر: لابد من التنبيه هنا إلى أن الغاية من الكلام عن الالتزام الظاهر وكونه من أصل الدين هي بيان الحكم الشرعي لهذه المسألة، كما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، عند الكلام عن حقيقة الإيمان، واشتراط تلازم الظاهر والباطن. لكن دون الخوض في أحكام المعينين وتبين أحوالهم. حيث إن بعض الطوائف قد رتبوا على هذه القضية الحكم على الناس بالكفر ابتداء، وأن كل من لم يتحققوا من إسلامه بشروط وحدود ابتدعوها فالأصل فيه الكفر، كما ذهب آخرون إلى القول بالتوقف في الحكم بكفرهم أو إسلامهم، حتى يتبينوا تحقيق المعين لأمور جعلوها حداً للإسلام، مع أنه لا تلازم بين الحكم بثبوت وصف الإسلام للمعين وبين ما تسميه تلك الطوائف الحد الأدنى للإسلام. إن قضية الالتزام الظاهر وكونه من أصل الدين غير قضية الحكم على المعينين. ويتبين ذلك بأمرين: الأول: إن الالتزام الظاهر في حقيقته التزام تفصيلي، وإنما هو داخل في أصل الدين من حيث الجملة، بخلاف الالتزام الباطن، فإنه التزام إجمالي يكفي في تحقيقه مجرد إرادته إرادة إجمالية، بالرضى بدين الإسلام والعزم على الالتزام به. ولهذا لا يعذر أحد – ممن بلغته الدعوة – بجهل أو تأول أو إكراه فيما يتعلق بالالتزام الإجمالي، بخلاف الالتزام التفصيلي، فإنه يشترط في الالتزام به على التفصيل قيام الحجة التفصيلية على المعين وقدرته على التزامه. ومعنى ذلك أن الناس يختلفون فيه بحسب بلوغ الحجة الرسالية وبحسب قدراتهم بعد ذلك، سواء في ذلك ما يتعلق بمعرفة جميع المأمورات، أو ما يتعلق بمعرفة المنهيات، ومنها أعمال الشرك الظاهر التي قد تخفى على بعض الناس، وقد يفعلونها بغير قصد ما يكون به الشرك. وعليه فلا يمكن اشتراط حد أدنى للإسلام. لأنه لا يمكن معرفة حال المعين وكونه لم يحقق الالتزام الظاهر إلا من جهة تلبسه بناقض، لأن الأصل المفترض فيمن أقر بالشهادتين أنه ملتزم بمقتضاهما. فإن كان نقضه للالتزام من جهة تلبسه ببعض أعمال الشرك مثلاً فلابد من إقامة الحجة عليه، والتبين عن حاله، وتعريضه للتوبة أولاً، فإن أبى وأصر كان كافراً، وإن رجع فهو مسلم. ولا إشكال في معاملته قبل ذلك بمقتضى الإسلام، لأن ذلك ظاهر حاله، إلا من كان من حاله على يقين. الثاني: إن هناك فرقاً بين الحكم المطلق وحكم المعين. فالحكم المطلق يتعلق بالوصف الشرعي وبيان مناط الحكم فيه. وأما حكم المعين فلابد فيه من توفر شروط وانتفاء موانع. وهذه القاعدة هي أصل قواعد أهل السنة فيما يتعلق بتكفير المعين ولهذا كان الإمام أحمد- رحمه الله – مع تكفيره للجهمية الذين يقولون إن القرآن مخلوق من حيث الحكم المطلق لا يكفر كل معين منهم بذلك. بل كان رحمه الله يدعو للخليفة وغيره ممن حبسه ويستغفر لهم، وقد حللهم من كل ما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين لم يجز الاستغفار لهم (20) . ولأجل عدم التفريق بين الحكم الشرعي المطلق وحكم المعين ضل فريقان فيما يتعلق بالالتزام الظاهر وعلاقته بالحكم على المعين، فذهب فريق إلى أنه لابد للحكم للمعين بالإسلام من تبين الالتزام الظاهر، ثم اختلفوا في حده، فمنهم من قال هو ترك النواقض، ومنهم من تجاوز فاشترط أعمالاً محددة جعلها الحد الأدنى لثبوت وصف الإسلام. وذهب المرجئة إلى نقيض هذا الاتجاه فألغوا اعتبار الالتزام الظاهر من جهة الالتزام بجنس العمل بالكلية من أصل الدين لنفس الشبهة، وهي أن الالتزام الظاهر لو كان داخلاً في أصل الدين لكان شرطاً في إجراء الأحكام على المعينين. والحقيقة أنه ... لا تلازم بين الأمرين من هذه الجهة. وهكذا نرى أن شبهة المرجئة والخوارج واحدة من حيث الأصل وهي قولهم إن العمل إذا كان من الإيمان فيلزم أن ينتفي الإيمان بانتفاء بعضه، وإلى هذا ذهب الخوارج، أو لا ينتفي الإيمان بذلك فلا يكون العمل من الإيمان، وإلى هذا ذهب المرجئة. إذ عندهم أن الإيمان شيء واحد يذهب كله أو يبقى كله، لا يزيد ولا ينقص، وهم في هذا لم يفرقوا بين جنس العمل الذي اشترطه أهل السنة لتحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة وبين جزء العمل الذي يكون تخلفه لمماً أو كبيرة تنقص الإيمان لكنها لا تهدمه. وإنما ينتفي الإيمان بالنواقض. ونعود الآن إلى بيان حقيقة الالتزام الظاهر المشروط في أصل الدين فنجد أنه يتضمن أمرين: الأول: ترك النواقض. ولا خلاف في اشتراطه لتحقيق الالتزام الظاهر وبقاء وصف الإسلام، وأن من تلبس بناقض، وتوفرت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه فهو كافر، لكنهم قد يختلفون في حقيقة الكفر، بناء على الاختلاف في حقيقة الإيمان. فمن لا يعتبر العمل من الإيمان لا يكفر بتركه، لأن تركه عنده ليس كفراً. ومن يسوغ دعاء الأموات فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يكفر من يفعل ذلك، لأن ذلك عنده ليس كفراً، وإنما هو من المجاز العقلي. ونحو ذلك. الثاني: الالتزام بجنس العمل، وهو إجماع أهل السنة والجماعة، ومعنى قولهم: (الإيمان قول وعمل) أي أن مجرد الإقرار لا يكفي لثبوت وصف الإسلام وبقائه للمعين دون الالتزام بالعمل. وهذا هو مناط النزاع بين أهل السنة والمرجئة، الذين بنوا قولهم على أصول فلسفية نظرية تجريدية، وانتهوا إلى أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان وحقيقته، كما أنه ليس لازماً له. بل يكون الإيمان عندهم كاملاً متحققاً في الباطن ولو لم يعمل الإنسان أي طاعة ولم يترك أي معصية كما صرحوا بذلك. وأصل خطئهم في مسمى الإيمان أنهم أرادوا أن يجعلوا للإيمان حداً تعرف به حقيقته وماهيته التي لابد أن يستوي فيها جميع أفراد المعينين من المؤمنين، بحيث لا يقبل النقص ولا الزيادة (21) . ولا يكون ذلك عندهم إلا بمعرفة المقومات الذاتية التي لا يمكن تحققه إلا بها، وبتخلف بعضها تنتفي حقيقة الإيمان وماهيته بالكلية. بخلاف الخواص العرضية - كما يقولون- التي ليست شرطاً في تحقيقه وإنما هي ثمرة من ثمراته. يقول الرازي مستشكلاً كلام الإمام الشافعي في أن الفاسق لا يخرج من الإيمان، مع قوله إن العمل من الإيمان: قال الشافعي رضي الله عنه: الفاسق لا يخرج عن الإيمان، وهذا في غاية الصعوبة، لأنه لو كان الإيمان اسماً لمجموع أمور فعند فوات بعضها فقد فات ذلك المجموع فوجب أن لا يبقى الإيمان (22) . ثم نظروا بحسب هذه القاعدة إلى العمل، فوجدوا أن من نحكم بإسلامهم يختلفون في الالتزام به، وأن من ترك بعض الأعمال لا يحكم بكفره، ولم يجدوا حدًّا أدنى من الأعمال مشروطة لثبوت وصف الإسلام، ولم يفرقوا بين ما يشترط لتحقيق الإيمان وما يشترط لثبوت وصف الإسلام للمعين، فنفوا أن يكون الالتزام بالعمل داخلاً في أصل الدين بالكلية. يقول أحدهم في ذلك: … (الدرجة الثالثة: أن يوجد التصديق بالقلب والشهادة باللسان دون الأعمال بالجوارح، وقد اختلفوا في حكمه. فقال أبو طالب المكي: العمل من الإيمان ولا يتم دونه. وادعى الإجماع فيه. واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه، كقوله تعالى: الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إذ يدل على أن العمل وراء الإيمان، لا من نفس الإيمان، وإلا فيكون العمل في حكم المعاد. والعجيب أنه قد ادعى الإجماع في هذا... وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر، والقائل بهذا قائل بعين مذهب المعتزلة (23) ، إذ يقال له من صدق بقلبه وشهد بلسانه، ومات في الحال فهل هو في الجنة؟ فلابد وأن يقول نعم، وفيه حكم بوجود الإيمان دون العمل (24) ، فنزيد ونقول لو بقي حياً ودخل عليه وقت صلاة فتركها ثم مات أو زنى ثم مات فهل يخلد في النار؟ (25) . فإن قال نعم فهذا مراد المعتزلة. وإن قال لا فهو تصريح بأن العمل ليس ركناً من نفس الإيمان، ولا شرطاً في وجوده، ولا في استحقاق الجنة (26) ، وإن قال أردت به أن يعيش مدة طويلة ولا يصلي ولا يقدم على شيء من الأعمال الشرعية فما ضابط تلك المدة، وما عدد تلك الطاعات التي بتركها يبطل الإيمان، وما عدد الكبائر التي بارتكابها يبطل الإيمان، وهذا لا يمكن التحكم بتقديره، ولم يصر إليه صائر أصلاً) (27) . ويقول شارح (العقائد النسفية) في بيان حقيقة الإيمان وماهيته، ونتيجة ذلك فيما يتعلق بالالتزام بالعمل: (إن حقيقة الإيمان لا تزيد ولا تنقص، لما مر من أنه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، حتى إن من حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه باق على حاله، لا تغير فيه أصلاً) (28) . بل إنهم تجاوزوا مجرد إخراج العمل من مسمى الإيمان فاختلفوا في الإقرار، وهل هو شرط للإيمان داخل في حقيقته أم أنه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط. وذلك بناء على التزامهم بأصلهم في تصور ماهية الإيمان، وقولهم في أن جزء الماهية لا يمكن تخلفه، وإلا تخلفت الماهية بالكلية. يقول صاحب (شرح المسايرة): لا وجود للشيء إلا بوجود ركنه والإنسان مؤمن على التحقيق من حين آمن بالله تعالى إلى أن مات، بل إلى الأبد، وإنما يكون مؤمناً بوجود الإيمان وقيامه به حقيقة، ولا وجود للإقرار في كل لحظة. فدل على أنه مؤمن بما معه من التصديق القائم بقلبه، الدائم بتجدد أمثاله، لكن الله أوجب الإقرار ليكون شرطاً لإجراء أحكام الدنيا، إذ لا وقوف للعباد على ما في الضمائر، فتجري أحكام الآخرة على التصديق بدون الإقرار، حتى إن من أقر ولم يصدق فهو مؤمن عندنا، وعند الله تعالى هو من أهل النار. ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو كافر عندنا وعند الله مؤمن من أهل الجنة (29) . ... يكفي في بيان عدم اعتبارهم العمل من الإيمان، وعدم اشتراطهم الالتزام به كلية للنجاة في الآخرة، ولا مجال للتوسع في النقول عنهم في ذلك، فكلهم على ذلك وهو مقتضى وصفهم بالإرجاء. لكن الذي نريد بيانه هنا هو ما استندوا عليه لبيان مذهبهم أن الإيمان حقيقة واحدة هي التصديق، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأن الأعمال، بل والإقرار عند بعضهم ليست شرطاً في تحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة.


--Hussein an Egyptian (نقاش) 23:08، 18 يوليو 2016 (ت ع م)ردّ

عد إلى صفحة Hussein an Egyptian/ملعب